كتاب
فلسطين وأخطاء المؤرخين العرب القدماء
جميل خرطبيل
* *
*
الفهرس
المقدمة.
هوامش المقدمة.
1- الفصل الأول: رواة الأخبار والأنساب.
هوامش الفصل الأول: رواة الأخبار والأنساب.
2- الفصل الثاني: قضية التحريف والتزوير.
هوامش الفصل الثاني: قضية التحريف والتزوير.
3- الفصل الثالث: المؤرخون العرب القدماء: تمهيد
- الطبري, ابن الأثير, ابن كثير, اليعقوبي, المقدسي, ابن الجوزي, ابن عساكر, ابن
خلدون, النويري..
هوامش الفصل الثالث: المؤرخين العرب القدماء.
4- الفصل الرابع: الأرض المقدسة في التفاسير
القرآنية.
هوامش الفصل الرابع: الأرض المقدسة في التفاسير
القرآنية.
5- الفصل الخامس: مسجد بيت المقدس.
هوامش الفصل الخامس: مسجد بيت المقدس.
6- الفصل السادس: ما
تجاهله المؤرخون العرب القدماء.
هوامش الفصل السادس:
ما تجاهله المؤرخون العرب القدماء.
الخاتمة.
هوامش الخاتمة.
المصادر والمراجع.
* *
*
المقدمة:
ما بين التاريخ الديني والتاريخ
الحقيقي
ما بين التاريخ الديني والتاريخ العلمي السياسي
والحضاري والذي هو ذاكرة الشعوب, هوة كبيرة لا يمكن ردمها.
والمؤرخون المسلمون القدماء بكتاباتهم عن فلسطين
وبلاد الشام والعراق ومصر قديماً, لم يقدموا سوى تاريخ ديني؛ محوره قصص الأنبياء
وبني إسرائيل, ومصدرهم أسفار العهد القديم والإسرائيليات!
وهم وإن قيدوه بالزمان والمكان, فلا يعني تحوله
إلى تاريخ علمي. فقصص الأنبياء القرآنية الموغلة في أعماق التاريخ, لم ُتؤطر
أحداثها بزمان أو مكان محددين. لأن غايتها تتعلق بالدعوة إلى التوحيد والتربية من
خلال الوعظ والإرشاد والتوجيه. فتحديد الزمان والمكان يصير عائقاً في وجه القصص
للوصول إلى فضاء أوسع, فضاء مطلق. كما أن القصص لا تهدف إلى تقديم تاريخ مادي
حقيقي للبشرية, بل هي للعبرة: [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي
ٱلأَلْبَابِ] (1).
لذلك لا يمكن دراسة التاريخ الديني بالمقارنة أو
بالموازنة التلفيقية مع التاريخ الحقيقي زماناً ومكاناً.
والمؤرخون العرب القدماء بدءاً من الطبري وحتى
ابن خلدون, كان همهم بالنسبة للتاريخ القديم هو حكاية التكوين والخليقة منذ آدم
ومروراً بقصص الأنبياء, ثم قصص الملوك والحكام والصالحين والآثمين بهدف الوعظ...
فوقعوا في تلك الغلطة الكبيرة وهي عدّ التاريخ الديني القديم هو نفسه التاريخ
الحقيقي زماناً ومكاناً.
لقد كانت التوراة رائدهم في المكان وتسلسل الزمن
والمعلومة, وهم يتحدثون عن التكوين وتشكل المجموعات البشرية الأولى وتكون المدن
والدول..
والمؤرخ القديم أخذ دور العالم (الجيولوجي
والجغرافي والطبيعي والأحيائي والفلكي والآثاري...) لإكمال حبكة الوجود من الأزل
وحتى القرون الأولى للميلاد, حيث أخذ التاريخ مفهومه شبه الحقيقي, ولكنه لم يكن
نقياً وصافياً تماماً.
بعد أن آمن المتدين قديماً بقصص الأنبياء
القدماء, دفعه فضوله لمعرفة المزيد من المعلومات عنهم, وهنا دخل عنصر الخرافة
والأسطورة والخيال الجامح للقاص أو المفسر لملء الفراغ. وكان المتلقي يتقبل الأمر
برحابة صدر لأنه يشبع فضوله ويهدئ مشاعره المتأججة, ولم يكن همه البحث عن مصداقية
تلك القصص زمانياً ومكانياً!
إن ذاك التاريخ الموغل في القدم مغفل عند أولئك
المؤرخين لأنه من اكتشافات العصر الحديث, فنحن لم نقرأ عند أيّ منهم حديثاً عن
الفينيقيين أو البابليين أو السومريين أو المصريين.. ولم نقرأ عن الحضارات العظيمة
التي صنعها العرب قبل الميلاد بآلاف السنين, بل قبل النبي نوح وأبنائه الذين نسلوا
البشرية كما تقول التوراة. فالأرض العربية كانت مهد الحضارة والتي بدأت منذ آلاف
السنين (2).
ولنا أن نعذر مؤرخينا الذين لم يطلعوا على
الوثائق أو الحفريات ولم يحظوا بالمعطيات العلمية فكل ذلك خارج إطار عصرهم, ولكن
لن نعذرهم وقد وجدوا أمامهم مصدراً للمعلومات القديمة جاهزاً وعلى رأسه التوراة,
فتلقفوه دونما دراسة أو تدقيق ومراجعة, ونقلوا منه دون تردد لأنه يسد النقص
المطلوب عندهم, ويحقق بغيتهم ويريحهم من عناء التفكير والبحث. فهل تلك الغاية تبرر
لهم ذلك؟!
هناك من قرأ التوراة فلم تستوقفه بتحطيمها لشعب
له حضارته, وهم رأوا بأعينهم آثار حضارات الشعوب القديمة في مصر والشام والعراق,
ولم تثر دهشتهم, وإن هي أثارت وبشكل جزئي فسروها بشكل خرافي كما فعل بعضهم تجاه
آثار تدمر إذ أوعز بناءها إلى جن سليمان, وجعلها مقبرة لبلقيس!
من هنا يأتي لوم المؤرخين القدماء, فنحن لم
نطالبهم بما هو فوق طاقتهم, فاللوم لأنهم أخذوا ينهلون من التوراة والرواة دون قيد
أو شرط, وكان عليهم أن يفكروا في المطروح بين أيديهم. وقد انتقد ابن خلدون في
مقدمته من سبقه على ذاك النقل دون أي تمحيص, إلا أن ابن
خلدون نفسه ومن جاء بعده لم يلتزم بما قاله؛ فقد أذهب كلامه أدراج الرياح!
لقد غيبت التوراة وأسفار العهد القديم كل تلك
الحضارات لتحل مكانها رؤيتها هي للتكوين وبدء الخليقة وتفرع السلالات البشرية
وحكايات الآباء المؤسسين لقبيلة بني إسرائيل, جاعلة منهم محور الكون. واستقطب
المؤرخ المسلم الغزو الثقافي اليهودي, فتبنى تلك الرؤية المتهافتة ونقلها إلى
التراث الإسلامي كحقيقة مسلم بها. فصار تاريخ فلسطين القديم ما قبل الميلاد بل
وتاريخ بلاد الشام والعراق ومصر تاريخاً للمعلومة التوراتية, مع تعديلات (حذف,
إضافة) هنا أو هناك أملتها مزاجية العقلية الراوية والمتلقية والمدونة, وما انتشر
من شعبيات في الوسط العربي الإسلامي!
***
إن خطأ الكتبة المسلمين الأول هو أنهم عدّوا النص
التوراتي كتاباً إلهياً, وهذا ترتبت عليه القناعة بأن بني إسرائيل موحدون
والكنعانيين وثنيون, وصارت كذبة مجيء الإسرائيليين إلى فلسطين أمراً حقيقياً
عندهم. والأمر نفسه انعكس على التفسيرات الخاطئة التي قدمها المفسرون للآيات
القرآنية المتعلقة ببني إسرائيل!!
***
إن البعثات العلمية وعلماء الآثار الذين قدموا
إلى فلسطين منذ القرن التاسع عشر لم يأتوا لدراسة تاريخ فلسطين القديم بروح العالم
الموضوعي الباحث عن الحقيقة, إنما جاؤوا بخلفيات يسيطر عليها الهوس الديني والتعصب
الأعمى وخاصة البروتستانت, وبهدف البحث أو الكشف عن جغرافية الرواية التوراتية
لأرض الآباء المقدسين وأبناء إسرائيل شعب الله أجداد المسيح اليهودي (3)!
كما أن المستشرقين الموظفين في دوائر المخابرات
الغربية الاستعمارية, وكتبة القواميس والموسوعات والأطالس الخاصة بالكتاب المقدس,
زوروا جغرافية وزمن النص التوراتي ليتلاءم مع رؤيتهم المتشنجة, ويتوافق مع الرؤية
الاستعمارية والصهيونية اللتين تريدان فلسطين مكاناً, بل أكثر من هذا الأرض
الممتدة عبر العراق وبلاد الشام ومصر أي من الفرات إلى النيل!
هذه النظرة الضيقة الأفق والتي شجعتها من الخلف
الإمبريالية والمسيحيون المتصهينون هي التي ولدت تلك الكارثة!
وتم التلاعب أيضاً بقراءة الأعلام ولا سيما أعلام
الأمكنة في المدونات الآثارية القديمة لشعوب المنطقة, فترجموها وكتبوها بما يساعد
على إسقاطها قسراً على أعلام الأسفار.. (4).
***
إن الفلسطينيين العرب كانوا وما زالوا في فلسطين
منذ أكثر من عشرات الآلاف من السنين. ونظريات المستشرقين أو الباحثين الغربيين حول
الكنعانيين ومجيئهم في منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد سواء من غرب الجزيرة أو من
البحرين أو من غيرها لا قيمة علمية لها, لأنها مجرد تخمينات ولا دليل عليها.
لكن من المحتمل أن تكون هناك مجموعات عربية جديدة
مهاجرة جاءتهم منذ ما يقارب الثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد شأنهم في ذلك شأن العرب
في بلاد الشام والعراق, فاندمجت المجموعات الجديدة فيهم, فكلهم عرب ولهم لغتهم
الواحدة ضمن الأرض العربية, وانصهر الجميع في بوتقة واحدة. ونظرية شعب كنعان في
فلسطين والامتداد في بلاد الشام, هي نظرية المستشرقين والمستعمرين القائمة على
الرواية التوراتية. ومثلها نظرية الفلسطينيين القادمين من البحر؛ فسكان فلسطين
القدماء عرب فينيقيون/ فلسطينيون/ كنعانيون/ أموريون.. وأضف ما شئت من التسميات
فكلها لمسمى واحد.
ومع مجيء المستعمر الخارجي من فرس ويونان ورومان
بقي الشعب الفلسطيني في أرضه صامداً ومغلوباً على أمره, إلى أن جاءت الفتوحات
العربية الإسلامية فحررته من الرومان وأعادته إلى هويته المستلبة وإلى السيادة
العربية الإسلامية.
إن نصوص العهد القديم مليئة بالآيات الكثيرة التي
تقر بوجود الكنعانيين في فلسطين وبأنهم أصحاب الأرض قبل مجيء الإسرائيليين المزعوم
إلى أرض كنعان, وهذا ما سعت الأسفار لتهميشه, كما سعى المستشرقون والمؤرخون
الغربيون - الصهاينة خاصة – إلى تهيمشه وتغييبه ومسخه لصالح وجود أحادي هو الوجود
الإسرائيلي!
إن النص التوراتي
الذي بين أيدينا جوهره أيديولوجية الفكر الاستعماري لأرض كنعان والمنفعة والأنانية
وأخلاقية عالم التجارة والمال.. وسواء أكانت كتابته على يدي عزرا أم المجموعة
السبعينية أم س من المؤلفين, فذاك لا يبدل شيئاً من رؤية حقيقة النص!
كما أن القارئ لجغرافية الرواية التوراتية بعمق
وبحيادية وموضوعية, لا يستطيع أن يطبقها كاملة – سواء أكانت هي الأصلية أم المزورة
- على فلسطين أو بلاد الشام والعراق ومصر, لأن ذكر أسماء الأمكنة وحدها دونما
الانتباه إلى السياق العام وترابط الأعلام ببعضها دونما تناقض وعلى أرض الواقع
الجغرافي والتاريخي دونما تعارض, يحتاج إلى جهد يفوق قدرة عقول مؤلفي نصوص العهد
القديم على تحقيقه. ومن هنا أخفقوا في إتقان التلفيق والتزوير والتزييف والتلاعب.
واللاهوتيون فيما بعد في دارستهم لجغرافية الأسفار لعبوا دورهم في الإسقاطات
القسرية والملفقة إلا أنهم لم ينجحوا تماماً. وجاء الفكر الاستعماري الغربي عبر
المستشرقين والمؤرخين الذين داروا في فلكه ليعطي تاريخاً مزيفاً بناه هو مستنداً
إلى ما يمكن أن يسعفه من شواهد ومبتعداً عن النصوص التوراتية ذات الإشكالات. وصار
ما كتبوه عن تاريخ فلسطين القديم هو الوثيقة البديلة والمرجعية للدراسات
الأكاديمية في الغرب والعالم.. ولكن أخيراً كان لبعثات الدراسات الآثارية قولها
الفصل في ذلك, وكذلك القراءة الجادة والدراسة المقارنة!
فبدءاً من ثمانينات القرن الماضي بدأت تظهر في
الغرب أفكار جريئة تشكك بصحة تاريخية التوراة, وأدرك بعض الباحثين والمؤرخين
الغربيين الواعين (المؤرخين الجدد) زيف العهد القديم ومدى استغلال الفكر
الاستعماري الصهيوني والأوروبي (المسيحي المتصهين) فكرة أرض الميعاد، لإقامة
المشروع الاستعماري الصهيوني عليها. مما أدى ذلك إلى تغييب التاريخ الفلسطيني
الزمكاني وطمسه لصالح الرواية التوراتية كما طرح كيت وايتلام وتوماس طومسون
وغيرهما...
ولم تعد مقبولة تلك الأفكار التي قزمت تاريخ
فلسطين بعصر الآباء وعصر الخروج والغزو والعصر الذهبي الوهمي لبني إسرائيل في عهد
داود وسليمان, ثم عصر الانقسام والسبي والعودة والإصلاح.. أو تقسيم تاريخ فلسطين
إلى مرحلتين ترتبطان باليهود مرحلة الهيكل الأول وقد انتهت مع السبي البابلي
المزعوم, ومرحلة الهيكل الثاني وانتهت عام 70 ميلادي...
إن النص التوراتي ليس وثيقة تاريخية أو جغرافية
أو علمية, وهذا ما أثبتته الحفريات والدراسات النزيهة. كما أثبته الدارسون الشرفاء
وعلماء الآثار, والذين منهم من نفض يديه بعد أن فقد الأمل في العثور على أي دليل
يثبت صحة أية مقولة في النص التوراتي. فنتائج البحث المحموم عن رواية العهد القديم
على أرض فلسطين باءت بالإخفاق, وبالتالي رُفِضت التوراة كمعطى تاريخي وجغرافي (إسرائيل
فنكلشتاين وإسرائيل شاحاك, ياكوف رابكان وكاثلين كِنيون وزيئيف هرتسوغ..) (5).
وانعكس ذاك الأمر على بعض الباحثين العرب
الواعين؛ فبدأ بعضهم يفكك عقد النقص تجاه الغربي, ولكن ما زالت عيون بعضهم ترنو
إلى الغرب بشيء من الدفء. وهذا ما دفع د. زياد منى إلى محاولة إعادة كتابة تاريخ
فلسطين القديم "مقدمة لتاريخ فلسطين القديم".
فنتيجة الإخفاق في الحصول على أي أثر يدعم
الرواية التوراتية, فتّح الآفاق لإعادة النظر بما كان يسمى مسلمات.
***
والخطأ الذي ارتكبه مؤرخونا القدماء تجاه فلسطين
وبلاد الشام والعراق ومصر, وقع فيه مؤرخون عرب معاصرون فأساءوا إلى تاريخ فلسطين
القديم تلك الإساءة نفسها, فهم عندما أرخوا لفلسطين القديمة ولا سيما من القرن
التاسع عشر قبل الميلاد وحتى القرون الأولى لظهور المسيحية, نقلوا عن المؤرخين
الغرب الاستعماريين أو عن الذين يدورون في فلك الاستعمار والصهيونية أو في فلك التأثير
اللاهوتي المتعصب، أو عن المؤرخين العرب القدماء الذين داروا في فلك التوراة
والإسرائيليات!
وبعضهم لم يدرك عصر انقشاع ضبابية التوراة
بالمعطيات الآثارية, لكنهم أدركوا الكشف عن الحضارات القديمة للعرب في العراق
والشام ومصر، والكشف عن مصادر عزرا التوراتية المسروقة من تراث المنطقة العربية.
فهم أخطأوا إذ لم يدرسوا حقيقة التوراة ومعطيات المؤرخين والمستشرقين والباحثين
الغربيين..
وإذا كنا لا نحمل القدماء مسؤولية ما لا يعرفونه,
فهل نغفر للمعاصرين العرب الذين ما زالوا يتحدثون بعقلية التوراة والمؤرخين
المسلمين القدماء. وهناك من يتذاكى بعروبته وإسلامه فلا يستشهد على تاريخ فلسطين
القديم إلا بمراجع ومصادر إسلامية كالطبري وابن الأثير وابن كثير وابن عساكر وابن
خلدون.. ولا يدري أن مصدر أولئك هو التوراة أو اليهود, وهم يتداولون المعلومات عن
بعضهم!!
وهل يعقل أن هناك الآن من يجهل حقيقة معلومات
مؤرخينا القدماء!؟
والأكثر استغراباً هو المناضل الذي يكافح المشروع
الصهيوني, وفي الوقت نفسه يعترف من منطلق ديني برواية التوراة ويربط بين اليهود
المعاصرين ويهود التاريخ وبني إسرائيل!!
***
لقد ظن المؤرخون المسلمون القدماء
أنهم وظفوا التراث الديني اليهودي ليخدم تفسير وتوضيح حكاية التكوين والوجود
والخلق, والأنبياء.. ولكن ما تم عملياً هو غزو ثقافي يهودي أخضع التراث الإسلامي
بما في ذلك تفسير القرآن والحديث النبوي, للتراث الديني اليهودي, وصار بالتالي
التراث اليهودي قاعدة أساسية في التراث الديني الإسلامي!
***
لقد تعددت اتجاهات المؤرخين والباحثين في عصرنا
فهناك:
1- الاتجاه التقليدي السائر في ركاب الرؤية
الاستعمارية الغربية, والصهيونية.
2- المؤرخون المتدينون الدائرون في فلك أسفار
العهد القديم.
3- المؤرخون الجدد المطالبون بإنصاف الفلسطينيين
المغيبين.
4- الباحثون والمؤرخون الذين رأوا في منطقة عسير
بالجزيرة العربية, ما يطابق جغرافية التوراة.
5- المطالبون بإعادة كتابة التاريخ العربي
القديم، على أسس علمية؛ تستند إلى الآثار والوثائق والمدونات.. دراسة وتنقيباً
ومقارنة.. بنزاهة وموضوعية للوصول إلى تاريخ علمي حقيقي.
***
يتألف الكتاب من ثلاثة فصول رئيسية
وهي:
المؤرخون العرب القدماء - الأرض المقدسة في
التفاسير القرآنية - مسجد بيت المقدس.
وهناك فصلان تمهيديان بعد المقدمة
هما:
رواة الأخبار والأنساب - قضية التحريف والتزوير.
وقبل الخاتمة هناك فصل: ما
تجاهله المؤرخون العرب القدماء.
أما الخاتمة فهي
تحمل عنوان: انعكاس أخطاء المؤرخين القدماء على المعاصرين.
ويبقى أخيراً أن
نشير إلى تسمية العنوان؛ أهم مؤرخون ومفسرون عرب أم مسلمون, ولا سيما هناك منهم من
هو ليس بعربي؟
لا نستطيع أن
نفصل الحضارة العربية عن الإسلام, ولا الإسلام عن العربية, فهي حضارة عربية
إسلامية, ولسانها اللغة العربية. لذلك نستطيع أن نقول: المؤرخون العرب أو
المسلمون, أو نجمع بين الكلمتين: العرب المسلمون. وفي الكتاب تداول لتلك التسميات.
كما اكتفى
العنوان بكلمة المؤرخين مع أن الكتاب يناقش المفسرين أيضاً, والسبب أن معظم
المؤرخين هم مفسرون, كما أن موضوعات التفسير المتعلقة بالقصص القرآنية تشابكت مع
كتاباتهم حول التاريخ القديم.
ونأمل من خلال إغناء الكتاب بالنصوص الكثيرة لعرض آراء المؤرخين المسلمين القدماء
والمفسرين حول فلسطين وشعبها والقدس.. ومناقشتها, أن نكون قد بينا الأخطاء التي
ارتكبها المؤرخون والمفسرون بحق فلسطين بل وبحق بلاد الشام والعراق ومصر.. وهذا ما
يفتح الأبواب لمزيد من الدراسات لإعادة دراسة التراث وتقويمه على أسس علمية
وموضوعية.
* *
*
هوامش
المقدمة
(1) (سورة يوسف - الآية 111).
(2) يعود الوجود
الفلسطيني/ الكنعاني في فلسطين إلى 200.000 سنة قبل
الميلاد (بقايا هياكل في مغارة
الزطية قرب قرية المجدل شمالي مدينة طبريا عام 1925, وقد عاش صاحبها قبل 200.000
سنة.. كما اكتشفت بقايا هياكل في مواقع أخرى في كهوف الكرمل والناصرة تعود إلى ما قبل 100.000 سنة).
والفلسطينيون/ الكنعانيون هم أول من
عرف الاستقرار (يعود تاريخ أريحا إلى ثمانية أو سبعة آلاف سنة
قبل الميلاد), وهناك مدن كنعانية/ فلسطينية يعود تاريخ بعضها إلى أربعة
آلاف سنة قبل الميلاد. وقد عرفوا الممالك الصغيرة (مملكة القرية/ المدينة) والكبيرة
(مملكة عدد من القرى أو المدن).. وهم أول من عرف
الزراعة في العالم وتدجين الحيوانات ثم اكتشاف المعادن... وعلى أيديهم تم
التطور الزراعي والصناعي والعمراني..
(3) لقد تغلغلت فكرة
الشعب المختار وأرض الميعاد في الذهنية المسيحية الغربية وصارت من مكوناتها؛
وأدت إلى ربط يهود العصر بيهود التاريخ وربط كل أولئك
بسلالة إسرائيل "يعقوب" دون انقطاع!
ومنذ أن
نشر مارتن لوثر مؤسس حركة الاحتجاج والإصلاح (البروتستانتية) كتابه "المسيح
ولد يهودياً" عام 1523, الذي هاجم فيه البابا والكنيسة لاضطهادهما اليهود
ومعاملتهما السيئة لهم, طالب بمعاملة اليهود معاملة جيدة ليدخلوا إلى الدين
المسيحي. وهم شعب الله المختار أبناء الرب, وأهل المسيح. والمسيح يهودي, بينما
المسيحيون ضيوف غرباء. ولكن لوثر انقلب ضد اليهود وهاجمهم بعنف لأنهم رفضوا تغيير
دينهم. ودعا إلى ترحيلهم على حساب الدولة إلى بلادهم (فلسطين) ليتخلص المسيحيون
منهم. فلوثر آمن بأن يهود عصره هم من سلالة يهود التاريخ، وبأنهم شعب/ عرق, وبأن
وطنهم الأصلي هو فلسطين, وبأن من مهمات الدولة تقديم الدعم اللازم لترحيل اليهود
إلى فلسطين, وهذه الفكرة تغلغلت في الفكر الأوروبي ومشاعره حتى الآن!
والحركة الإصلاحية المؤمنة بالألفية تجاهلت موقف
لوثر المعادي لليهود, ولكنها طالبت بإعادة شعب الله ثانية إلى وطنهم (فلسطين), لأن
تلك العودة، وإقامة دولة اليهود تمهد لعودة المسيح!
وخلال تطور الفكر الغربي في عصر النهضة الأوروبية,
تم إحياء الأدبيات اليهودية والخرافات الدينية, وانعكست أسفار العهد القديم في الأعمال
الأدبية: جون ميلتون, ألكسندر بوب، راسين, لسنغ, اللورد بايرون، والتر سكوت,
وردزورث، جورج إليوت..
ومن المفكرين والعلماء في القرن السابع عشر
والثامن عشر الذين دعوا إلى مساعدة اليهود للعودة إلى بلادهم: جون لوك, إسحق
نيوتن، برستلي, باسكال, روسو.. والكارهون لليهود كفخته (ولوثر كما مر) كانوا يدعون
لطرد اليهود ليعودوا إلى بلادهم ليتخلصوا منهم، فلا فرق بينهم وبين المحبين لليهود؛
فكلاهما طالب بعودة اليهود إلى فلسطين سواء أكان ذلك حباً لهم أم كرهاً!!
ومع العصر الإمبريالي اُستغلت فكرة العودة
والدولة المعششتين في الوجدان الغربي, لاستعمار فلسطين بسبب موقعها الإستراتيجي؛ فنابليون
بونابرت المسيحي المتصهين الأول دعا سنة (1799) اليهود للعودة إلى فلسطين لإقامة
دولتهم التي منحهم الله! ولم تتأخر الإمبريالية البريطانية عن منافسة نوايا
نابليون وتطلعاته, فعملت هي الأخرى على تبني المشروع. وازدادت فكرة إقامة الدولة
اليهودية, كمخفر لحراسة المصالح الغربية, قوة في القرن التاسع عشر عقب حملة محمد
علي التي قادها ابنه إبراهيم إلى فلسطين, والخوف من نجاحه في إقامة دولة عربية!
وصاغ اللورد المسيحي الصهيوني الإنجليزي
شافتسبيري في مقال كتبه عام 1839 عبارة "شعب بلا أرض, لأرض بلا شعب".
وألف ووليم هشلر عام 1894 كتاب "إعادة اليهود إلى فلسطين", قبل كتاب
هرتزل "الدولة اليهودية" الذي صدر عام 1896. وتلك المواقف خلقت في
النهاية برنامج الصهاينة اليهود في بازل عام 1897.. وتتابعت مواقف المسيحيين
الصهاينة فآرثر جيمس بلفور كان معجباً بعظمة اليهود وعبقريتهم وتبنى إنشاء دولة
لهم في فلسطين بمساعدة بريطانيا كتمهيد لعودة المسيح الألفية! وعندما صار وزيراً
للخارجية في عهد رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج المسيحي الصهيوني, كان وعده المشؤوم
عام 1917!!
لقد وجد اليهود أنفسهم أمام مسيحيين آمنوا
بخرافات عزرا أكثر منهم, فاستغلوا الدين وذاك الدلال وتملق المسيحيين الصهاينة
المستمر لهم لتحقيق مصالحهم والمنافسة في السيادة والاستعمار, فرسخوا تلك الخرافات
في الفكر الغربي, وازدادوا غطرسة وتعالياً وتمرداً على الغربيين!
(4) من المعروف أنه عندما ترجم ما
كان موجوداً من أسفار العهد القديم, من اللغة الآرامية القديمة الخالية من
الصوتيات/ الحركات، إلى اللغة اليونانية, وغيرها من اللغات فيما بعد, كانت هناك
مشكلة في اللفظ وقواعد اللغة وخاصة لفظ الأعلام "أسماء الأشخاص والأماكن
الجغرافية", فلم تتم ترجمتها بدقة فكانت تلفظ وتقرأ وتكتب بمزاجية المترجم.
وانتهى الأمر إلى قراءتها القسرية ولو أدت تلك القراءة إلى تحريف العلم ليتطابق مع
أعلام يعرفونها!
(5) أجمع المؤرخون الجدد على أن
التوراة ليست وثيقة تاريخية, ولكن لها أهمية دينية وأدبية..
وفي الكيان الصهيوني اهتزت
الرؤية التاريخية للتوراة في بعض الأوساط المثقفة, فقد أثار أستاذ الآثار الجامعي
هرتسوغ زوبعة قبيل انتهاء القرن الماضي في تشرين الأول/ أكتوبر, حول تغير نظرة بعض علماء الآثار اليهود
إلى
التوراة ورفضهم صحة الكثير من رواياتها وعدها مجرد أساطير؛
كالوجود في مصر والخروج وغزو فلسطين والاستيطان فيها بالقوة العسكرية ونشوء
المملكة..
إن قادة الصهيونية الأوائل اعتمدوا
على التزييف التاريخي لخداع العالم, ولإقناع اليهودي الساذج بالمجيء إلى فلسطين,
ولكن لما صار الكيان الصهيوني قوياً لم يعد بحاجة إلى تلك الأساطير ليدعم خداعه
وتزييفه, فسياسة الأمر الواقع والقوة هي منطقه الوحيد. وهذا ما يذكرنا بكوستلر فهو
بعد أن عدّ الخزر المتهودين القبيلة الثالثة عشرة, وتحدث عن حقهم في العودة, وجد
أن منطقه متهافت لتبرير قيام الكيان, فلجأ إلى سياسة الأمر الواقع مستنداً إلى
الشرعية الدولية التي اعترفت بقيام الكيان!!
* *
*
الفصل
الأول:
رواة
الأخبار والأنساب
اختلط العرب قبل الإسلام باليهود والمسيحيين, ولم
يكونوا بمعزل عن الحضارات من حولهم. وقد عرفوا كثيراً من المعلومات عن الديانتين
بالاعتماد على السماع, فعصرهم عصر الثقافة الشفوية التي يتلقونها شفاهة، وقد استمر
عصر الثقافة الشفهية حتى عصر التدوين في الإسلام. فذاك عصر الثقافة السمعية إن جاز
هذا التعبير.
وفي العصر الإسلامي ازداد اطلاع العرب المسلمين
على كتب اليهود والمسيحيين, وعرفوا أسفار العهد القديم والجديد (الكتاب المقدس)
وأخذوا منها الكثير, كما استمعوا إلى علماء الديانتين. إضافة إلى اطلاعهم على بعض
حكايات التلمود والشعبيات اليهودية والمسيحية.
وإذا ما قفزنا إلى العصر العباسي نجد أن العراق
صار البحيرة التي صبت فيها أنهر الثقافة اليونانية والرومية والفارسية والهندية,
إضافة إلى تراث الديانتين اليهودية والمسيحية..
فالعرب قبل الإسلام
عرفوا كثيراً من الحكايات والأنساب, ولكنها معارفهم كثرت وتضخمت في العصر
الإسلامي, وحين توقدت العصبيات نتيجة الصراعات الداخلية صار موضوع الأنساب
والافتخار به من صلب التكتلات المتعارضة والمتناحرة. وراجت أكثر هي والحكايات في
زمن التدوين حيث ازداد الطلب عليهما.
ونهضت البصرة والكوفة في عصر الثقافة الكتابية
وحولهما تراث متنوع يضرب جذوره في أعماق التاريخ.
فكل شيء كان جاهزاً بين اليدين المدونتين للثقافة
الشفوية. وصار الراوي بطل الميدان بما يرويه مشبعاً النفوس بما تحتاجه. وبما أن
المتلقي المدون يتلقف كل معلومة دون تدقيق, لم تبق هناك حدود أمام الراوي تمنعه من
الأكاذيب والتلفيقات.
لقد بدأت الثقافة الكتابية في خضم التيارات
الثقافية المتنوعة, وكان الدين الإسلامي هو المحور المركزي للدائرة التي أخذت تتسع
رويداً رويداً, وفي الوقت نفسه أخذت تتشعب وتبتعد عن المركز قليلاً قليلاً.
وكان لليهود شهرتهم بأنهم أعلم الناس بأخبار
الماضي, يقول القنوجي خلال حديثه عن اليهود بأنهم:
(هم بنو إسرائيل وكانت عنايتهم بعلوم الشرائع
وسير الأنبياء, فكان أحبارهم أعلم الناس بأخبار الأنبياء وبدء الخليقة وعنهم أخذ
ذلك علماء الإسلام) (1).
ومن ذاك المفهوم السائد عن أحبار اليهود أخذ
المدونون ينقلون عنهم, أو عن طريق التوراة مباشرة, أو عن طريق الرواة كوسيط بين
الطرفين. ولم يتحر المدون ما كان ينقله عن الرواة, بل قلما يفكر بما ينقل, فالهدف
عند الجميع سد نقص في حكاية ما أو الإجابة عن استفسار ما.. وما أكثر الأسئلة
المتوالدة من بعضها!
ولم يدرك مؤرخونا أن الكتبة ألفوا التوراة وبقية
الأسفار بهدف إعادة صياغة الوجود, ليكون اليهودي هو السيد وابن الله وهو مركز
الوجود ومحوره ومبتدؤه ومنتهاه.. وبأنهم أعادوا تصنيف البشرية وفق منظورهم المبني
على استعمار أرض كنعان, بعد الإطاحة بكنعان وجعله إبليس المطرود والملعون والعبد..
لقد تقبل المؤرخون
الأنساب دونما نقاش جاد وحاسم. وهي وإن جعلتهم من النخب الأول أبناء سام, لكنها
حققت لليهود روابط القرابة, ومكاناً في شجرة العائلة. ولم يكن هذا بمشكلة في تلك
العصور عصور سيادة العرب المسلمين, ولكن في عصور الانحطاط والمشروع الصهيوني صارت
قضية سام ذات أبعاد سياسية خطيرة يعاني العالم من طغيانها حتى الآن!
***
لقد غزا سيل جارف من المعلومات اليهودية الساحةَ
الإسلامية, وصار الهدف عند الكثيرين جمع أكبر كم ممكن, قبل أن يحظى به آخرون.
ومنهم من كان يعدل في الخبر زيادة أو نقصاناً بحسب الذاكرة وما سمعته والخلفية
الثقافية والمزاجية. وآخرون ارتجلوا الكثير ليلفتوا النظر إليهم فعندهم الجواب
الفوري لكل سؤال!
وقد انتقد بعض القدماء الرواة غير الموثوق بهم
ففضحهم وكشف اختلاقهم وكذبهم, وذاك النقد ارتبط بنقد المادة المنقولة نفسها أي
المعلومات الخرافية سواء أكانت متعلقة بالأنساب أم الحكايات والأخبار، والنقدان
أديا إلى نقد المتلقي الذي يعتمد على جمع المعلومات دون دراسة وتدقيق.
آ- نقد مبدأ التجميع دون دراسة وتدقيق:
انتقد ابن خلدون المؤرخين قبله على قبول ما هب
ودب من المعلومات, فقال:
(إلا أن كتبهم
ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود, والسبب في ذلك أن العرب لم
يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية وإذا تشوقوا إلى معرفة
شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود,
فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود ومن
تبع دينهم من النصارى, وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون
من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ومعظمهم من حِمْيَر الذين أخذوا بدين
اليهودية, فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية
التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال
ذلك. وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم فامتلأت
التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم, وليست مما
يرجع إلى الأحكام فتتحرى في الصحة التي يجب بها العمل. وتساهل المفسرون في مثل ذلك
وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات وأصلها كما قلنا عن أهل التوراة الذين يسكنون
البادية ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلا أنهم بعد صيتهم وعظمت
أقدارهم لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة فتلقيت بالقبول من يومئذ....)
(2).
ولم يكتف ابن خلدون بنقد مناهج المؤرخين القدماء بل طرح المنهج الذي يجب أن يتمسك به المؤرخ:
(فهو محتاجٌ إلى مآخذ متعدَدةََ ومعارف متنوعة،
وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات
والمغالط لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد
السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها
بالشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور، ومزلة القدم والحيد عن
جادة الصدق. وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات
والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو ثميناً، لم يعرضوها على أصولها،
ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات،
وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط؛
ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة
الكذب ومطية الهذر ولا بد من ردها إلى الأصول وعرضها على القواعد) (3).
ولكن, هل التزم ابن خلدون نفسه بذاك المنهج وتلك
الرؤية؟!
لا! فهو وآخرون قد يقفون عند أمور جزئية وهامشية
ينتقدونها, وإن كانت أحياناً تنم عن لفتة ذكية, ولكنهم ضمن السياق العام لا يلتزمون بها كمنهج, فهم ينسون ما يقولونه وبالتالي ينقلون كل شيء!
***
ب- نقد خرافات الأنساب وخرافات الحكايات والأخبار:
1- نقد خرافات
الأنساب:
حمل ابن حزم على
خرافات السلالات والأنساب فقال:
(إنه ليس على
ظهر الأرض أحد يصل نسبه بصلة قاطعةٍ، ونقل ثابت، إلى إسماعيل، ولا إلى إسحاق عليهما
السلام, نعني ابني إبراهيم خليل الله صلى
الله عليه وسلم, فكيف إلى نوح, فكيف إلى آدم, عليهما السلام؟ هذا ما لا مرية
فيه..)... (وأما الذين يسمونهم العرب والنسابون العرب العاربة كجرهم، وقطورا،
وطسم، وجديس، وعاد، وثمود، وأميم، وإرم، وغيرهم، فقد بادوا؛ فليس على أديم الأرض
أحد يصح أنه منهم، إلا أن يدعي قوم ما لا يثبت. وكذلك سائر ولد إبراهيم صلى الله
عليه وسلم, كمدين بن إبراهيم وسائر إخوته. وكذلك بنو عمون المنسوبون إلى لوط عليه
السلام. وكذلك ولد ناحورا أخي إبراهيم عليه السلام. وكذلك ولد عيصو بن إسحاق عليه
السلام؛ فليس على وجه الأرض أحد يقال: "هذا منهم"، على ما كانوا فيه من
كثرة العدد) (4).
وهناك
آخرون كان موقفهم ضبابياً يرفض من جانب ويتقبل من جانب آخر مثل ابن خلدون, فهو في
هذا النص يرفض قضية الأنساب:
(واعلم أنّ الامتياز بالنسب أضعف
المميزات لهذه الأجيال والأمم لخفائه واندراسه بدروس الزمان وذَهابه. ولهذا كان الاختلاف
كثيراً ما يقع في نَسَبِ الجيل الواحِد أوّ الأمَّة الواحدة، إذا اتصلت مع الأيام وتشعَّبت
بطونُها على الأحقاب كما وقع في نسب كثير من أهل العالم مثل اليونانيين والفرس والبربر
وقحطان من العرب. فإذا اختلفت الأنساب واختلفت فيها المذاهب وتباينت الدعاوى استظهر
كل ناسب على صحَّة ما ادَّعاه بشواهد الأحوال والمتعارف من المقارنات في الزمان والمكان, وما يرجع إلى
ذلك من خصائص القبائل وسمِات الشعوب والفِرَق التي تكون فيهم منتقلة، متعاقبة في بنيهم.
وسُئلَ مالك رحمه الله تعالى
عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم، فكره ذلك وقال من أين يعلم ذلك؟ فقيل له فإلى إسماعيل
فأنكر ذلك، وكره أيضاً أنّ يُرْفَعَ في أنساب الأنبياء، مثل أنّ يقال: إبراهيم بن فلان
بن فلان، وقال من يخبره به. وكان بعضهم إذا تلا قوله تعالى: "وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ
إِلاَّ اللَّهُ", "سورة إبراهيم
9", قال:
كَذَبَ النسابون. واحتجوا أيضاً بحديث ابن عباس أَنَّه صلى الله عليه وسلم لما بلغ نسبه الكريم إلى عدنان قال من ههنا كذب النسابون.
واحتجوا أيضاً بما ثبت في أَنه علم لا ينفع، وجهالة لا تضرّ، إلى غير ذلك من الاستدلالات) (5).
وابن خلدون الرافض لقضية الأنساب كما في
النص السابق, يظهر ليناً في تقبل ما يذكر من أنساب العرب المتأخرين عن طريق
اليهود:
(وأخبار
هذا الجيل من العرب وإن لم يقع لها ذكر في التوراة إلا أنّ بني إسرائيل من بين أهل الكتاب أقرب إليهم عصراً، وأوعى لأخبارهم، فلذلك
يعتمد نقل المهاجرة منهم لأخبار هذا الجيل، ثم أنّ هذه الأمم على ما نقل كان لهم ملوك
ودول) (6).
وفي النهاية يقبل ابن خلدون والآخرون
الأنساب كلها, ويذكرونها في كتبهم دون تحفظ كما سيأتي!
2- نقد خرافات
الحكايات والأخبار:
لقد انتقد ابن
حزم الخرافات بكل أنواعها سواء أتعلقت بالأنساب أم الحكايات والأخبار, وشن حملة
قوية على بعض الأخبار الخرافية متهماً واضعيها بالزندقة:
(هذه الطائفة لا يعمل عندهم إلا ما جاء
من طريق مقاتل بن سليمان والضحاك بن مزاحم وتفسير الكلبي وتلك الطبقة وكتب القذى,
التي إنما هي خرافات موضوعات وأكذوبات مفتعلات, ولدها الزنادقة تدليساً على
الإسلام وأهله. فأطلقت هذه الطائفة كل اختلاط لا يصح من أن الأرض على حوت والحوت
على قرن ثور, والثور على صخرة, والصخرة على عاتق ملك, والملك على الظلمة, والظلمة
على ما لا يعلمه إلا الله عز وجل, وهذا يوجب أن جرم العالم غير متناه. وهذا هو
الكفر بعينه, فنافرت هذه الطبقة التي ذكرنا كل برهان ولم يكن
عندها أكثر من قولهم نهينا عن الجدال, فليت شعري
من نهاهم عنه) (7).
***
ج- نقد الرواة:
اشتهر كثير ممن رووا القصص والحكايات والأنساب
نذكر منهم: ابن عباس - هشام بن محمد الكلبي – محمد ابن إسحاق - وهب بن منبه - عبد
الله بن سلام - كعب الأحبار – أبي بن كعب - قتادة – مقاتل – السدي - الثعلبي..
(8).
وقد طعن كثيرون في مصداقية معظم أولئك, لشهرتهم
بالكذب. وهذه مقتطفات قيلت عن بعضهم:
مقاتل والضحاك
والكلبي والسدي:
يتحدث القنوجي عنهم فيقول:
(وأوهى
طريقة طريق الكلبي عن أبي صالح. والكلبي هو أبو النصر محمد بن السائب المتوفى
بالكوفة سنة ست وأربعين ومائة. فإن انضم إليه رواية محمد بن مروان السدي الصغير
المتوفى سنة ست وثمانين ومائة, فهي سلسلة الكذب. وكذلك طريق مقاتل بن سليمان بن
بشر الأزدي المتوفى سنة خمسين ومائة, إلا أن الكلبي يفضل عليه لما في مقاتل من
المذاهب الردية. وطريق ضحاك بن مزاحم الكوفي المتوفى سنة اثنتين ومائة عن ابن عباس
منقطعة, فإن الضحاك لم يلقه وإن انضم إلى ذلك رواية بشر بن عمارة فضعيفة لضعف بشر.
وقد أخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم وإن كان من رواية جرير عن الضحاك فأشد ضعفاً
لأن جريراً شديد الضعف متروك, وإنما أخرج عنه ابن مردويه وأبو الشيخ ابن حبان دون
ابن جرير) (9).
ابن إسحق:
تحدث عنه ابن
النديم فقال:
(أخبار بن إسحاق
صاحب السيرة أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن يسار, مطعون عليه غير مرضي الطريقة.
يحكى أن أمير المدينة رقى إليه أن محمداً يغازل النساء فأمر بإحضاره...).. (ويقال
كان يعمل له الأشعار ويؤتى بها ويسأل أن يدخلها في كتابه في السيرة فيفعل, فضمن
كتابه من الأشعار ما صار به فضيحة عند رواة الشعر, وأخطأ في النسب الذي أورده في
كتابه. وكان يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم في كتبه أهل العلم الأول. وأصحاب
الحديث يضعفونه ويتهمونه) (10).
وهب بن منبه:
يتحدث ابن عساكر عنه فيذكر بأنه روى أخباراً
منكرة, وكان قاضياً في المدينة زمن هارون الرشيد فعزله:
(روى منكرات فترك حديثه, ثم عزل عن المدينة)
(11).
وإلى جانب وهب
هناك عبد الله بن سلام وكعب الأحبار, والثلاثة لعبوا
الدور الأكبر في نقل الإسرائيليات إلى التراث الإسلامي!
الثعلبي:
يقول القنوجي
عنه:
(والإخباري ليس له شغل إلا
القصص واستيفاؤها والأخبار عن سلف سواء كانت صحيحة أو باطلة ومنهم الثعلبي) (12).
إن أولئك الرواة هم
الذين فتحوا الآفاق لغزو الثقافة اليهودية بما نقلوه من التراث اليهودي إلى التراث
الإسلامي, إضافة إلى ما تفتقت به عبقريتهم من الاختلاق والكذب, بدءاً من الأنساب
وتوزع البشرية وانتهاء بالتاريخ والتفسير والحكايات..
والراوي كناقل
للخبر أو ملفق له يتحمل جزءاً من المسؤولية وكذلك مصدر الخبر, ولكن المسؤول الأول
والأخير هو المدون المؤرخ أو المفسر، وعليه تقع المسؤولية الكاملة؛ لأن الكتابة
مسؤولية والتأريخ والتفسير يتطلبان الدقة والأمانة والتمحيص وليس مجرد الجمع
والتدوين. وهذا ما يعطي المؤرخ أو المفسر المكانة التي يستحقها.
***
وفي العصر
الحديث كتب كثيرون عن تلك القضايا كأحمد بهاء الدين في كتابه
"الإسرائيليات", و د. طه حسين في كتابه "في الأدب الجاهلي", و
د. جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" والذي
سنستعرض منه بعض آرائه في ذلك:
يتحدث د. جواد علي حول رواة الأنساب والأخبار
والحكايات.. فيقول:
(يمكن حصر الروايات الواردة في الأنساب،
والمأخوذة من أهل الكتاب ورجعها إلى الطرق الأصلية التي وردت منها وإلى الأماكن
التي ظهرت فيها، وسنجد بعد البحث أن أكثر رواة هذا النوع من الأخبار كانوا قد
استقوا من معين واحد. هم مسلمة أهل الكتاب، مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه، وعبد
الله بن سلام، ومحمد بن كعب القرظي، ورجل من أهل تدمر عرف بـ "أبي
يعقوب" كان يهودياً فأسلم. وقد زود "ابن الكلبي" وغير ابن الكلبي
بقسط من هذه الأسماء التي يستعملها النسابون في الأنساب. وكان "محمد ابن
إسحاق" صاحب السيرة يعتمد على أهل الكتاب، ويكثر الرواية عنهم ويسميهم أهل
العلم الأول..)..
(وقد استغل نفر من أهل الكتاب حاجة المسلمين هذه إلى الوقوف على
"البدء" أي مبدأ الخلق والتكوين، وقصص الرسل والأنبياء، وكيفية توزع
البشر، فأخذوا يفتعلون ويضعون ويصنعون على التوراة والكتب اليهودية المقدسة،
يبيعونه لهم أو يتقربون به إليهم، ادعاء للعلم والفهم..) (13).
إذاً نحن أمام خمسة
أحبار من اليهود نقلوا الكثير من الإسرائيليات إلى التراث الإسلامي وهم: كعب
الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام ومحمد بن كعب القرظي، أبو يعقوب التدمري.
وكان ابن الكلبي وابن إسحق وغيرهما يأخذان مباشرة عنهم.
ولكن ما المستوى
المعرفي لأولئك ولا سيما الراوي ناقل المعلومة, ولكلٍ شخصيته ونفسيته وأخلاقه في
النقل؟ يجيب د. جواد عن ذلك بالقول:
(إنّ هذا يدل على
أن الرواة اليهود الذين كانوا يتحدثون بمثل هذه الأمور إلى ابن الكلبي ومحمد بن
إسحاق وغيرهما ممن مال إلى الأخذ منهم، كانوا إما جهلة بما يتحدثون به، وإما
كذّابين أو ممن كانوا يحاولون التقرب إلى المسلمين بهذه التلفيقات لمآرب خاصة، أو
ادعاءً للعلم. غير أننا لا نستطيع أن نبرئ هؤلاء الرواة أنفسهم من وصمة الجهل أو
الكذب، ولا سيما ابن الكلبي الذي تفرد برواية معظم هذه الأخبار...
وقد استغل نفر من
أهل الكتاب مثل اليهودي التدمري المذكور، الذي أسلم كما يقول الرواة، هذا الجشع
الذي ظهر بين أهل الأخبار في البحث عن الأنساب القديمة، أنساب أجداد العرب
القدامى، فصنعوا ما صنعوا من أسماء عليها مسحة توراتية، قدموها إليهم على أنها
مذكورة في التوراة. وقد أخذها الرواة على عادتهم من غير بحث ولا مراجعة للتوراة.
وما الذي يدفعهم إلى البحث والمراجعة، فإن كل ما يطمعون به ويريدونه هو الحصول على
مادة يظهرون بها على أقرانهم من أهل الرواية والأخبار) (14).
واليهود
أيضاً كمصدر للمعلومات لم يكونوا على مستوى واحد من الثقافة شأنهم في ذلك هو شأن
الرواة, هذا إضافة إلى أنهم كانوا يكذبون ويخترعون ما شاء لهم خيالهم. وهنا الكذبة
تنتقل من واحد لآخر عبر سلسلة من الكذابين, ولا نستطيع في كثير من الأحيان أن نعرف
من صاحب تلك الكذبة؛ أهو الأخباري أم الراوي أم المتلقي المدون؟!
كما أن مصدر
المعلومة أحياناً يتكون من مصادر متعددة تنصهر في خبر واحد, فيصير الخبر مكوناً
من:
(خليط من روايات
إسرائيلية وروايات فارسية وقصص شعبي عربي، يجوز أن نضيف إليه عنصراً آخر هو الوضع،
فقد وضع الرواة شيئاً من عندهم حين عجزوا عن الحصول عليه من الموارد الثلاثة
المذكورة، وكان لا بد لهم من سد تلك الثُغر...) (15).
وتلك الأنساب
الخرافية التي اندثرت, عادت إلى الحياة في العصور الحديثة حيث أحيا اليهودي
النمساوي شلوتزر السلالة المنسوبة إلى سام, لتخدم الفكر الاستعماري, يقول د. جواد:
(وقد أخذ من أطلق
هذه التسمية، تسميته هذه من التوراة. أخذها من اسم "سام بن نوح"، جدّ
هذه الشعوب الأكبر، كما هو وارد فيها. وأول من أطلقها وأذاعها بين العلماء علماً
على هذه الشعوب، عالم نمساوي اسمه "أوغست لودويك شلوتسر" August Ludeig Schlostzer
أطلقها عام "1781 م" فشاعت منذ ذلك الحين، وأصبحت عند العلماء والباحثين
في موضوع لغات الشرق الأدنى علماً للمجموعة المذكورة من الشعوب وقد أخذ
"آيشهورن" "Joh. Cotte. Eichhorn" هذه التسمية، وسعى
لتعميمها بين العلماء علماً على الشعوب المذكورة) (16).
وشلوتسر/ شولتزر،
اختلق ذلك بهدف إقحام اليهود في التراث التاريخي للمنطقة العربية, وهم لا يمتون
بأية صلة لها, وعمل على تثبيت وجودهم في الذاكرة, وبالمقابل أزاح الكنعانيين عن
فلسطين, وهو ما فعله كتبة الأسفار قديماً.
***
ذاك هو وضع الرواة
والروايات والمدونين, والمثير للدهشة أننا في الفصول القادمة, سنجد جميع الرواة
المطعون بمصداقيتهم, يسيطرون على روايات التاريخ والتفسير!
فلماذا قبل
المؤرخون والمفسرون رواية المطعون بمصداقيتهم وتداولوها, ولماذا تداولوا الخرافات
بكل أنواعها؟!
* *
*
هوامش
الفصل الأول: رواة الأخبار والأنساب
(1) القنوجي: أبجد العلوم - التلويح السابع في
العبرانيين - الجزء 1 - ص 174.
(2) تاريخ ابن خلدون: المقدمة ج 1 - ص 439 , 440.
(3) المصدر السابق: المقدمة - ص 13.
(4) ابن حزم:
جمهرة أنساب العرب - الصفحة 6.
(5)
تاريخ ابن خلدون: المجلد 2 - ص 4.
(6) المصدر السابق: المجلد
2 - ص 21.
(7) الفصل في
الملل والأهواء والنحل - ج 2 - ص 76.
(8) ألف كثيرون
كتباً للتعريف بالعلماء "موسوعات أعلام الأشخاص", تتفاوت فيما بينها
ووجهة نظرها إلى الشخصية. ومن هؤلاء السيوطي, الذي كان ليناً في نظرته إلى الأعلام
في كتابه "طبقات المفسرين". فهو يصف:
ابن السائب الكلبي:
(كان من أصحاب عبد الله بن سبأ وروى عنه
سفيان الثوري ومحمد بن إسحاق وكانا يقولان حدثنا أبو النضر محمد حتى لا يعرف)
[طبقات المفسرين - ج 1 - ص 17 , 18].
محمد بن إسحاق:
(كان عالماً وماهراً في
السير والمغازي وقصص الأنبياء والحديث والفقه والقرآن, وحدث في
بغداد) [طبقات المفسرين - ج 1 - ص 19].
(9) القنوجي:
أبجد العلوم - ج 2 - ص 179.
ويتابع القنوجي
كلامه:
( ثم انتصبت
طبقة بعدهم إلى تصنيف تفاسير مشحونة بالفوائد محذوفة الأسانيد مثل أبي إسحق الزجاج
وأبي علي الفارسي. وأما أبو بكر النقاش وأبو جعفر النحاس فكثيراً ما استدرك الناس
عليهما, ومثل مكي بن أبي طالب وأبي العباس المهدوي. ثم ألف في التفسير طائفة من
المتأخرين فاختصروا الأسانيد ونقلوا الأقوال بتراً فدخل من هنا الدخيل والتبس الصحيح
بالعليل. ثم صار كل من سنح له قول يورده ومن خطر بباله شيء يعتمده, ثم ينقل ذلك
خلف عن سلف ظاناً أن له أصلاً غير ملتفت إلى تحرير ما ورد عن السلف الصالح ومن هم
القدوة في هذا الباب...)...
وقد ذكر عبد الواحد بن عمر بن محمد بن أبي هاشم
في كتابه "أخبار النحويين" – ص 25:
(لأهل الكوفة كذابان السدي والكلبي).
(10) ابن النديم: الفهرست - ج 1 - ص 136.
(11) ابن عساكر: تاريخ دمشق - ج 63 - ص 406.
(12) القنوجي: أبجد
العلوم - ج 2 – ص 181.
(13) د. جواد علي: المفصل
في تاريخ العرب قبل الإسلام – الجزء الأول - الفصل 10.
(14) المرجع السابق: ج 1 - فصل 9.
(15) المرجع
السابق: ج 1 - فصل 10.
(16) المرجع
السابق: ج 1 – فصل 6.
* *
*
الفصل
الثاني:
قضية
التحريف والتزوير
إن المؤرخين والمفسرين المسلمين عدوا التوراة
كتاباً سماوياً مقدساً, وفي الوقت نفسه كانت أمامهم آيات قرآنية منها فيه اتهام
صريح بتحريف التوراة ومنها خلاف ذلك, مما أدى إلى وقوعهم في تناقضات وعدم الحسم
التام.
فمنهم من لفق التوفيق بين التحريف والقداسة؛ بحيث
لا يمس النص التوراتي. ومنهم من عدّ التحريف في المعنى, ومنهم من عده في الألفاظ,
ومنهم من عده في التفسير والتأويل...
وهناك تحريف وتزوير يتعلق بجغرافية التوراة,
وقضية كنعان وفلسطين.. إلا أن ذلك لم يخطر في بال الأقدمين لأنهم تبنوا رؤية
التوراة بأن أرض كنعان وبلاد الشام آلت إلى الإسرائيليين..
***
مفهوم التحريف والتزوير عند القدماء:
سنستعرض مفهوم التحريف قديماً عند ثلاثة من
المفكرين القدماء, الذين لهم ثقلهم في الفكر الإسلامي وهم: ابن خلدون وابن كثير
وابن حزم. ثم نشرح المفهوم في القرآن الكريم.
ابن خلدون:
ينفي ابن خلدون التحريف الجوهري في التوراة ولا
سيما النسب والقصص:
(وقد
وقعت العناية في التوراة بنسب موسى عليه السلام وإسرائيل وشعوب الأسباط، ونسب ما بينهم
وبين آدم صلوات الله عليه. والنسب والقصص أمرٌ لا يدخله النَسْخُ، فلم يبق إلا تحرّي
النُسخ الصحيحة والنقل المعتبر. وأمَّا ما يقال من أنّ علماءَهم بدَّلوا مواضع من التوراة،
بحسب أغْراضهم في ديانتهم. فقد قال ابن عباس، على ما نقل عنه البخاري في صحيحه: أنّ
ذلك بعيد، وقال معاذ الله أنّ تَعْمد أُمَّة من الأمَم إلى كتابها المُنْزَل على نبَيها
فتبدله أو ما في معناه، قال وإنما بدَّلوه وحرفوه بالتأويل. ويشهد لذلك قوله تعالى: "وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ" "سورة المائدة 43", ولو بدّلوا
من التوراة ألفاظها لم يكن عندهم التوراةُ التي فيها حكم الله. وما وقع في القرآن الكريم من نسبة التحريف
والتبديل فيها إليهم، فإنما المعني به التأويل، اللهم إلا أنّ يطرقها التبديل في الكلمات
على طريق الغفلة وعدم الضبط. وتحريف من لا يحسن الكتابة بنسخها فذلك يمكن في العادة،
لا سيما وملكهم قد ذهب، وجماعتهم انتشرت في الآفاق، واستوى الضابط منهم وغيرُ الضابط،
والعالمُ والجاهل، ولم يكن وازع يحفظ لهم ذلك لذهاب القدرة بذَهاب الملك، فتطرَّق من
أجل ذلك إلى صحف التوراة في الغالب تبديل وتحريف، غير متعمد من علمائهم وأحبارهم. ويمكن
مع ذلك الوقوف على الصحيح منها إذا تحرى القاصد لذلك بالبحث عنه) (1).
يستشهد ابن خلدون بابن عباس على أن التحريف هو في
التأويل, أما الألفاظ فلم يمسها أي تحريف. وربما يقع بعض التغيير غير المتعمد
نتيجة الغفلة وعدم الضبط!
***
ابن كثير:
ابن كثير يتظاهر بموقف متشدد, فهو يهاجم التوراة
بشدة, ويتهم اليهود بالتحريف في المبنى والمعنى:
(وهذه التوراة التي يبدونها ويخفون منها كثيراً
فيما ذكروه فيها تحريف وتبديل وتغيير وسوء تعبير, يعلم من نظر فيها وتأمل ما قالوه
وما أبدوه وما أخفوه. وكيف يسوغون عبارة فاسدة البناء والتركيب باطلة من حيث
معناها وألفاظها. وهذا كعب الأحبار من أجود من ينقل عنهم وقد أسلم في زمن عمر وكان
ينقل شيئاً عن أهل الكتاب فكان عمر رضي الله عنه يستحسن بعض ما ينقله لما يصدقه من
الحق وتأليفاً لقلبه, فتوسع كثير من الناس في أخذ ما عنده, وبالغ أيضاً هو في نقل
تلك الأشياء التي كثير منها ما يساوي مداده ومنها ما هو باطل لا محالة, ومنها ما
هو صحيح لما يشهد له الحق الذي بأيدينا. وقد قال البخاري وقال أبو اليمان حدثنا
شعيب عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطاً من قريش بالمدينة
وذكر كعب الأحبار فقال إنه كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل
الكتاب, وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب يعني من غير قصد منه. وروى البخاري من
حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أنه قال كيف يسألون أهل الكتاب
عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على رسوله أحدث الكتب بالله تقرأونه محضاً لم يشب,
وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو
من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً, ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألته, لا
والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم. وروى ابن جرير عن عبد الله
بن مسعود أنه قال لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا إما أن
تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل والله أعلم) (2).
نجد هنا رأياً لابن عباس يتناقض مع رأيه الذي
أورده ابن خلدون. وورود روايتين متناقضتين منسوبتين لراوٍ واحد ظاهرة عادية في
تراثنا القديم. وستمر معنا في الفصول القادمة نماذج عن ذلك, كما سنرى أيضاً أن بعض
آراء ابن عباس كانت ترفض.
ولم يكتف ابن
كثير بما ذكره, بل قال ما هو أكثر إن التوراة كلها منسوخة ويحرم أخذ شيء منها:
(قد بدلوا دينهم
وحرفوه وأولوه حتى صار كأنه غير ما شرع لهم أولاً, ثم هو بعد ذلك كله منسوخ.
والتمسك بالمنسوخ حرام لا يقبل الله منه قليلاً ولا كثيراً ولا فرق بينه وبين الذي
لم يشرع بالكلية) (3).
ويفرق بين
التوراة بلسانها العبري وبين التوراة المعربة؛ فالتوراة المعربة فيها تحريف كثير
في المبنى والمعنى, والتي بلسانهم لا يعرفها ولكنه يظن أنهم كذابون:
(وأما ما
بأيديهم من التوراة المعربة فلا يشك عاقل في تبديلها وتحريف كثير من ألفاظها
وتغيير القصص والألفاظ والزيادات والنقص البين الواضح. وفيها من الكذب البين
والخطأ الفاحش شيء كثير جداً, فأما ما يتلونه بلسانهم ويكتبونه بأقلامهم فلا اطلاع
لنا عليه, والمظنون بهم أنهم كذبة خونة يكثرون الفرية على الله ورسله وكتبه) (4).
ولكن على الرغم
من كلام ابن كثير السابق الحاسم ظاهرياً, إلا أنه وجد مخرجاً لقبول الاستشهاد
بالتوراة؛ فقد قسم الموقف منها إلى ثلاثة أقسام, والقسم الثالث بحسب تقسيمه يفتح
له المجال واسعاً للأخذ من روايات كثيرة عن العهد القديم بما في ذلك الخرافات, وهو
يعلل لنفسه القبول بذلك:
(وأما الأخبار
الإسرائيلية فيما يذكره كثير من المفسرين والمؤرخين فكثيرة جداً. ومنها ما هو صحيح
موافق لما وقع, وكثير منها بل أكثرها مما يذكره القصاص مكذوب مفترى وضعه زنادقتهم
وضلالهم. وهي ثلاثة أقسام منها ما هو صحيح لموافقته ما قصه الله في كتابه أو أخبر
به رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومنها ما هو معلوم البطلان لمخالفته كتاب الله
وسنة رسوله, ومنها ما يحتمل الصدق والكذب فهذا الذي أمرنا بالتوقف فيه فلا نصدقه
ولا نكذبه كما ثبت في الصحيح إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا
آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم, وتجوز روايته مع هذا الحديث المتقدم وحدثوا عن
بني إسرائيل ولا حرج) (5).
وينتهي ابن كثير
إلى نتيجة غير منطقية لمقدماته فهي لا تناسب تسلسل مناقشته حيث ينسف كل ما أظهره
من تشدد تجاه التحريف؛ فالتوراة صحيحة كما يذكر:
(وهذا كله يشكل
على ما يقوله كثير من المتكلمين وغيرهم أن التوراة انقطع تواترها في زمن بخت نصر
ولم يبق من يحفظها إلا العزير "عزرا", ثم العزير إن كان نبياً فهو
معصوم, والتواتر إلى المعصوم يكفي اللهم إلا أن يقال إنها لم تتواتر إليه, لكن
بعده زكريا ويحيى وعيسى وكلهم كانوا متمسكين بالتوراة. فلو لم تكن صحيحة معمولاً
بها لما اعتمدوا عليها وهم أنبياء معصومون) (6).
ذاك الضباب في
موقف ابن كثير ما بين القبول والرفض فتح له درباً للأخذ من التوراة, وكل شيء له
مبرراته!
وذاك التناقض
عند ابن كثير في موضوع التحريف, وكما في مدحه لكعب الأحبار ثم اتهامه بالكذب.. هو
ظاهرة عامة مكررة عنده وعند غيره.
فالتناقض
والتبرير سمتان من سمات المنهج في تراثنا القديم!
***
ابن حزم:
قاد ابن حزم -
كما مر معنا - حملة عنيفة على الخرافات ورواتها.. وهو في كتابه "الفصل في
الملل والأهواء والنحل", يدخل في مجادلات طويلة ينتقد فيها التوراة ويتهم
اليهود بالكذب والتحريف:
(وأما التوراة
فما وافقنا قط عليها لأننا نحن نقر بتوراة حق أنزلها الله تعالى على موسى عليه
السلام وأصحابه, لأنه تعالى أخبرنا بذلك في كتابه الناطق على لسان رسول الله صلى
الله عليه وسلم الصادق, ونقطع بأنها ليست هذه التي بأيديهم بنصها بل حرف كثير منهم
وبدل وهم يقرون بهذه التي بأيديهم ولا يعرفون التي نؤمن نحن بها. وكذلك لا نصدق
بشريعتهم التي هم عليها الآن بل نقطع بأنها محرفة مبدلة مكذوبة وهم لا يؤمنون
بموسى الذي بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته وبأصحابه. فاعلموا أننا لم
نوافقهم قط على التصديق بشيء من دينهم ولا مما هم عليه ولا مما بأيديهم من الكتاب
ولا بالنبي الذي يذكرونه لما قد أوضحناه من فساد نقلهم ووضوح الكذب فيه وعموم
الدواخل فيه) (7).
موقف ابن حزم
هنا واضح تماماً: التوراة محرفة كلها!
ويؤكد أن
التوراة كتلة من الأكاذيب:
(من الكذب
الظاهر في الأخبار وفيما يخبر به عن الله تعالى ثم عن ملائكته ثم عن رسله عليهم
السلام من المناقضات الظاهرة والفواحش المضافة إلى الأنبياء عليهم السلام. ولو لم
يكن فيها إلا فصل واحد من الفصول التي ذكرنا لكان موجباً... لكونها موضوعة محرفة
مبدلة مكذوبة فكيف وهي سبعة وخمسون فصلاً, من جملتها فصول يجمع الفصل الواحد منها
سبع كذبات أو مناقضات فأقل, سوى ثمانية عشر فصلاً يتكاذب فيها نص توراة اليهود مع
نص تلك الأخبار بأعيانها عند النصارى والكذب لائح ولا بد في إحدى الحكايتين, فما
ظنكم بمثل هذا العدد من الكذب والمناقضة في مقدار توراتهم...) (8).
وذاك الكلام
الواضح الذي لا لبس فيه, يلحقه ابن حزم بكلام يخلق رؤية ضبابية, فهو يصل إلى نتيجة
غريبة عن السياق؛ فالتوراة محرفة, ولكن الله يتدخل فلم يدع اليهود يحرفون كل شيء
ليكون حجة عليهم:
(إن كفار بني
إسرائيل بدلوا التوراة والزبور فزادوا ونقصوا, وأبقى الله تعالى بعضها حجة عليهم
كما شاء) (9).
فهل يقصد ابن
حزم أن ما بقي ليكون حجة هو فقط ما يتقاطع مع القرآن والأحاديث الصحيحة, أو أنه
أبقى الباب مفتوحاً مواربة, للقبول المقنن لما لا يتقاطع مع النصوص الإسلامية؟!
إذاً ما قاله
ابن حزم لا يعني الرفض المطلق؛ فهو وإن انتقد نصوصاً توراتية كثيرة (10) لكن نقده
كان للجزئيات, ولم يمس الإطار العام للتوراة!
فهو مثلاً يقبل
بالوعد وبالمملكة المزيفة حيث لا يرى فيهما تحريفاً, ولكنه يسفه امتداد المملكة
المذكور في الأسفار من النيل إلى الفرات, وبالتالي هو بنظره محرف:
(وبعد ذلك ذكر أن الله تعالى قال
لإبراهيم "لنسلك أعطى هذا البلد من نهر مصر النهر الكبير إلى نهر
الفرات", وهذا كذب وشهرة من الشهر لأنه إن كان عنى بني إسرائيل
وهكذا يزعمون, فما ملكوا قط من نهر مصر ولا على نحو عشرة أيام
منه شبراً مما فوقه. وذلك من موقع النيل
إلى قرب بيت المقدس, وفي هذه المسافة
الصحارى المشهورة الممتدة والحضار ثم دفج وغزة وعسقلان وجبال الشراة التي لم تزل
تحاربهم طول مدة دولتهم وتذيقهم الأمرين إلى انقضاء دولتهم, ولا ملكوا قط من
الفرات ولا على عشرة أيام منه. بل بين آخر
حوز بني إسرائيل إلى أقرب مكان من الفرات إليهم نحو تسعين فرسخاً فيها قنسرين وحمص
التي لم يقربوا منها قط ثم دمشق وصور وصيدا التي لم يزل أهلها يحاربونهم ويسومونهم
الخسف طول مدة دولتهم بإقرارهم ونصوص كتبهم....)
(11).
كما أنه قبل
رواية التوراة حول خروج بني إسرائيل من
مصر
مع موسى, ولكنه استنكر عددهم الذي
ذكرته التوراة, بالاستناد إلى الآية القرآنية على لسان فرعون بأنهم شرذمة قليلون. واستنكر أيضاً
أعداد بني إسرائيل عندما تم إحصاؤهم في عهد داود... (12).
***
إن قضية التحريف والتزوير بقيت في إطارها العام
ضبابية فضفاضة عند المفسرين والمؤرخين. وهي وإن مست موضوعات جزئية لكنها لم تمس
الأسفار ككل, وإلا كيف نفسر بقاء التراث اليهودي كله المصدر الأساسي عند المؤرخين
والمفسرين رغم ما قالوه عن التحريف والتزوير, إضافة إلى استيعاب ما نقله الرواة
والقصاصون والنسابون, رغم الطعن في مصداقيتهم!
لقد كان على المؤرخين والمفسرين المسلمين بحكم
انتمائهم الديني أن يعتمدوا على النص القرآني وحده لأنهم يؤمنون بأن القرآن نسخ
التوراة, أو أن يقبلوا ما يتقاطع حرفياً من التوراة مع القرآن دون أية زيادة.
لكنهم اتخذوا التوراة القاعدة الأساسية, فكانت النتيجة انتقال التراث اليهودي إلى
التراث الإسلامي!!
***
مفهوم التحريف
واللا تحريف في الآيات القرآنية:
إن الآيات
القرآنية المتعلقة بالتحريف لا تناقض آية التحكيم؛ فقد ورد مصطلحان في القرآن
للتعبير عن التحريف واللا تحريف: مصطلح التوراة للتعبير عن اللا تحريف؛ والتوراة
هي الشريعة فقط كما سيأتي. ومصطلح الكلم للتعبير عن التحريف؛ والكلم مصطلح عام
يشمل الأسفار كلها ويمس نصوصها كلها "في المبنى والمعنى" إلا الشريعة
المستثناة فالتحريف فيها لا يعني تحريف معنى النص ولا مبناه, إنما يعني تطبيق
اليهودي ما يخالف النص التوراتي والادعاء بأنه ورد هكذا في التوراة. لذلك طالبت
آيات التحكيم اليهود بإحضار التوراة لتكون حكماً على ما يزعمون. وأيضاً هناك تلاعب
في إخفاء النص وعدم إظهاره كما في خبر زنى اليهودي واليهودية الذي جاء في صحيح
مسلم الحديث رقم 1699:
(باب رجم اليهود
أهل الذمة في الزنى: حدثني الحكم بن موسى أبو صالح حدثنا شعيب بن إسحاق أخبرنا
عبيد الله عن نافع أن عبد الله بن عمر أخبره ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أتي بيهودي ويهودية قد زنيا, فانطلق رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى جاء زفر فقال: ما تجدون في التوراة على من زنى؟
قالوا: نسود وجوههما ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما. قال: فأتوا بالتوراة
إن كنتم صادقين, فجاؤوا بها فقرأوها حتى إذا مروا بآية الرجم, وضع الفتى الذي يقرأ
يده على آية الرجم, وقرأ ما بين يديها وما وراءها, فقال له عبد الله بن سلام وهو
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: مره
فليرفع يده فرفعها, فإذا تحتها آية الرجم, فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرجما قال عبد الله بن
عمر: كنت فيمن رجمهما فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه).
فهنا لا يوجد
تحريف إنما محاولة إخفاء النص؛ فاليهود أرادوا التهرب من تطبيق الرجم, كما ورد في
شروحات الطبري للآية 41 من سورة المائدة: [يُحَرّفُونَ الكَلِـمَ مِنْ بَعْدِ
مَوَاضَعِهِ]:
(يقول تعالـى
ذكره: يحرّف هؤلاء السماعون للكذب، السماعون لقوم آخرين منهم لـم يأتوك بعد من
الـيهود الكَلِـم. وكان تـحريفهم ذلك: تغيـيرهم حكم الله تعالـى ذكره الذي أنزله
فـي التوراة فـي الـمـحصنات والـمـحصنـين من الزناة بـالرجم إلـى الـجلد
والتـحميـم، فقال تعالـى ذكره: يَحرّفُونَ الكَلِـمَ يعنـي: هؤلاء الـيهود،
والـمعنى: حكم الكلـم، فـاكتفـى بذكر الـخبر من تـحريف الكلـم عن ذكر الـحكم
لـمعرفة السامعين لـمعناه. وكذلك قوله: مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ والـمعنى: من بعد
وضع الله ذلك مواضعه، فـاكتفـى بـالـخبر من ذكر مواضعه عن ذكر وضع ذلك، كما قال
تعالـى ذكره: وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بـاللّهِ وَالـيَوْمِ الآخِرِ
والـمعنى: ولكن البرّ برُّ من آمن بـالله واليوم الآخر. وقد يحتـمل أن يكون معناه:
يحرّفون الكلـم عن مواضعه، فتكون «بعد» وُضعت موضع «عن»، كما يقال: جئتك عن فراغي
من الشغل، يريد: بعد فراغي من الشغل..).
فالتحريف هنا
يتعلق بتغطية النص للتهرب من تطبيقه.. أما النص نفسه فليس محرفاً في نظر القرآن.
لقد وردت
الإشارة إلى التحريف في مواضع عدة: الآية 46 من سورة النساء: [يُحَرّفُونَ
الكَلِـمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ], ومثلها الآية 13 من سورة المائدة, كما وردت في الآية
41 من بعد وليس عن: [يُحَرّفُونَ الكَلِـمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضَعِهِ]..
والتحريف هو
التبديل كما يذكر الطبري: (يبدّلون معناها ويغيرونها عن تأويله), وعن مواضعه يعني:
(عن أماكنه ووجوهه التي هي وجوهه).
وذكر عن مجاهد
أن الكلم يعني التوراة, والمقصود تبديل اليهود للتوراة!
ويقول في
تفسيره:
(يحرّفون كلام
ربهم الذي أنزله علـى نبـيهم موسى صلى الله عليه وسلم، وهو التوراة، فـيبدّلونه
ويكتبون بأيديهم غير الذي أنزله الله جلّ وعزّ علـى نبـيهم ويقولون لـجهال الناس:
هذا هو كلام الله الذي أنزله علـى نبيه موسى صلى الله عليه وسلم والتوراة التـي
أوحاها إلـيه).
وفي تفسير
النسفي: (يميلونه عنها ويزيلونه لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلماً غيره فقد
أمالوه عن مواضعه في التوراة التي وضعه الله تعالى فيها وأزالوه عنها).
وعند البيضاوي:
(يحرفون الكلم أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها بإزالته عنها وإثبات غيره
فيها. أو يؤولونه على ما يشتهون فيميلونه عما أنزل الله فيه).
ولو عدنا إلى
معجم لسان العرب مادة "كلم"، نجد: ( قال الجوهري: كلـم: الكَلاَمُ: اسم
جنسٍ يقع علـى القلـيل والكثـير. والكَلِـمُ لا يكون أقلَّ من ثلاث كلـمات، لأنَّه
جمع كَلِـمَةٍ، مثل نَبِقَةٍ ونَبِقٍ..).
وفي مادة حرف: (وحَرَفَ
عن الشيء يَحْرِفُ حَرْفاً وانْـحَرَفَ وتَـحَرَّفَ واحْرَوْرَفَ: عَدَلَ...
وتَـحْرِيفُ
الكَلِـم عن مواضِعِه: تغيـيره. والتـحريف فـي القرآن والكَلـمة: تغيـير الـحرفِ
عن معناه والكلـمة عن معناها...).
ففي الأسفار
كلام أبعد عن معناه الصحيح إلى معنى مغاير, وتبديل المعنى يرتبط بتبديل اللفظ,
فلكل كلمة مدلول، والكلمات لا قيمة لها إلا في سياقها ضمن النسق. فالتحريف ليس في
الكلمة فقط وإنما في التركيب والجملة أيضاً.
والتحريف يتضمن
التزوير والكذب والغش.. وهو يشمل التكوين والخليقة والأنساب والمعلومات الإخبارية,
وقصص الأنبياء: الفكرة والحدث والحكاية والعبرة, والفضاء الزماني والمكاني..
لقد وردت
معلومات في رواية الأسفار تتقاطع مع بعض الآيات القرآنية, وهناك معلومات أخرى
كثيرة لا تتقاطع, وكان مستحيلاً على المؤرخ القديم تمييز المحرف واللا محرف في تلك
الزيادة, فأخذها كلها!
إن التقاطع
واللا تقاطع مع النص القرآني هو المقياس الذي كان يجب أن يتمسك به المؤرخ المسلم
والمفسر في القبول أو الرفض, وبالتالي هذا يعني الاكتفاء بالرواية القرآنية وحدها.
وما يهمنا هنا ما يتعلق بالزمان والمكان, فالمكان يعني الموقع الجغرافي؛ أسماء
الأعلام الجغرافية.. والقرآن لم يحدد أي علم مكان في قصص الأنبياء القدماء عدا ما
ذكر عن مدين كما سيأتي في الفصل الرابع, فالتحديد هو تزوير وتحريف, والكلام نفسه
ينطبق على الزمان!
أما الآيات التي
أشارت إلى عدم وجود التحريف فقد استخدمت مصطلح التوراة وليس الكلم. فالآية 43 من سورة المائدة تقول: [وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ
التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ], والآية 66 من السورة نفسها: [وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ..],
والآية 39 من سورة آل عمران: [فَأْتُواْ
بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ]...
فالتوراة هنا
تأخذ معناها الدقيق وهو الشريعة الناموس؛ الدساتير والأحكام والحدود والقوانين... وإقامة التوراة يعني تطبيق أحكامها, العمل بها. ولا يعقل أن
تطالب الآية اليهود بتطبيق التوراة/ الشريعة, وفي الوقت نفسه تقول لهم إنها محرفة
في المبنى والمعنى!
فالقرآن لم يمس
شريعة اليهود وطقوس العبادة إنما أشار إلى التهرب من تطبيقها. ولسنا هنا في إطار
مناقشة الناسخ والمنسوخ عند اليهود والمسلمين ولا مناقشة الشريعة اليهودية على ضوء
العلم, فهذا موضوع آخر خارج إطار البحث, ولكن مقياس التقاطع واللاتقاطع لا يصح
هنا, لأنه من البديهي عند المسلمين أن شريعة كل دين تتعدل مع الدين الجديد. كما أن
القرآن رغم حملته الشديدة على اليهود, ترك لهم حرية البقاء على دينهم أي شريعتهم,
وحفظ لهم حق العبادة.
كان من المفترض
أن يلتفت المؤرخون والمفسرون إلى معنى التوراة الدقيق وهو الناموس أي الشريعة التي
عنتها الآية, لكنهم عدوا الأسفار كلها توراة. ولو فصلوا بين مدلول الكلمتين اللتين
استخدمتا في مجالي القبول والاتهام: التوراة, الكلم؛ فالتوراة/ الشريعة هي
المستثناة وغير محرفة, والكلم التي تمس بقية الأسفار بالتحريف, لما وقعوا في تلك
الإشكالات!
إن ما يهمنا هنا
كل ما يتعلق بأرض كنعان وبلاد الشام والعراق ومصر "الدولة", وادعاء مجيء
الإسرائيليين إلى فلسطين وإقامة المملكة.. فكل ذلك تحريف وتزوير, لأن مطابقة
جغرافية التوراة على فلسطين والمنطقة غير صحيحة كما قال العِلم.
***
التوراة/
الشريعة "سفر التثنية":
إن التوراة هي أجزاء من سفر التثنية كما تقول التوراة
نفسها: [سفر الناموس هذا] (تثنية 28 / 61). [سفر الشريعة هذا] (تثنية 30 / 10). [وكتب موسى هذه التوراة وسلمها للكهنة بني
لاوي حاملي تابوت عهد الرب، ولجميع شيوخ إسرائيل] (تثنية 31 / 9). [24 فعندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في
كتاب إلى تمامها 25 أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب: 26 خذوا كتاب التوراة
هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون هناك شاهداً عليكم..] (تثنية 31),
[كما هو مكتوب في سفر توراة موسى] (يشوع 8 / 31), [وكتب هناك على الحجارة
نسخة توراة موسى التي كتبها أمام بني إسرائيل] (يشوع 8 / 32)..
ولو حصرنا آيات
التشريع فسنجدها في عدد من إصحاحات التثنية, والمكررة في عدد من آيات بعض إصحاحات
الأسفار الأخرى, وهي بشكل عام:
إحدى وعشرون آية
من أول الإصحاح الخامس من سفر التثنية. وبعض آيات الإصحاح السادس. ومن الآيات 15
الإصحاح العاشر حتى نهايته. ومن الآية 11 من الإصحاح 12 وحتى نهايته. والإصحاح 13,
14, 15, 16, 17, 18, وبعض من الإصحاح 19 و 20, ثم الإصحاحات 21, 22, 23, 24, 25.
وبعض الآيات مكرر في مواضع أخرى.
فتلك الآيات هي التوراة وهي أجزاء من سفر
التثنية فقط, وتشمل الوصايا والشرائع والتعليمات والحدود.. ومعنى ذلك أن التوراة لا علاقة لها بما قبلها من الأسفار ولا بما بعدها. ورغم ذلك يجمع
اللاهوتيون على أن التوراة هي الأسفار الخمسة الأولى, ويبقون القداسة لبقية
الأسفار, ورأيهم يناقض النص التوراتي نفسه. أما السامريون فهم لا يعترفون إلا
بالأسفار الخمسة الأولى ويرفضون ما عدا ذلك!
***
هدف كاتبي
الأسفار:
إن عزرا هو الذي
كتب التوراة وقسماً من أسفار العهد القديم كما ورد في سفره "سفر عزرا":
[عزرا الكاهن الكاتب، كاتب كلام وصايا الرب
وفرائضه على إسرائيل] (سفر عزرا 7 / 11), [وهو كاتب ماهر في شريعة موسى] ( سفر عزرا 7 / 6).
ويذكر المقدسي
في تاريخه كتابة عزرا للتوراة:
(قصة عزير بن سروحا:
قالوا وكان عزير فى سني بخت نصر,
فلما رجع إلى بيت المقدس قعد تحت شجرة وأملى عليهم التوراة من ظهر قلبه وكانوا قد
نسوها وضيعوها, لأن أباه سروحا كان دفنها أيام بخت نصر,
ولم يعلم بمكانها إلا عجوز فدلتهم عليها فاستخرجوها, وعارضوا
بها ما أملى عليهم فوجدوه ما غادر حرفاً)
(13).
وتلك المعلومة
رواها آخرون بطرق أخرى, نذكر منها ما قاله اليهودي المؤسِلم السموءل بن
يحيى بن عباس المغربي:
(فلما رأى عزرا أن القوم قد أحرق هيكلهم
وزالت دولتهم وتفرق جمعهم ورفع كتابهم, جمع من محفوظاته ومن الفصول التي يحفظها
الكهنة ما لفق منه هذه التوراة التي بأيديهم الآن)
(14).
وهو يؤكد كلامه:
(فهذه التوراة التي بأيديهم على الحقيقة
كتاب عزرا وليس كتاب الله) (15).
ويؤكد ابن
الجوزي أن توراة السامرة تخالف التوراة المتداولة في عصره:
(وفي أيدي السامرة توراة تخالف هذه
الموجودة) (16).
العهد القديم يعترف بأن التوراة دثرت وأن عزرا هو
الذي كتبها, ونقل المؤرخون المسلمون تلك المعلومة وأضافوا إليها بعض الخرافات حول
كتابتها, وهم يقرون بأن التوراة انقرضت نهائياً, وأن عزرا ويسمونه عيزرا أو عازار
هو الذي كتبها..
فلماذا لم
يتعاملوا مع تلك المعلومة بجدية؟!
فذاك الخبر
المهم جداً والذي أوردوه عرضاً ذهب هباء؛ لأنهم لم يؤطروه منهجياً, ولم يعيدوا على
أساسه قراءة التوراة المتداولة في عصرهم ضمن دراسة مقارنة!
لقد ذكر باحثو كتابة
الأسفار أن تأليف الأسفار لم يتم كاملاً على يدي عزرا بعد السبي البابلي
"المزعوم"، بل امتد من القرن السادس وحتى القرن الأول قبل الميلاد. وليس
هناك إثبات علمي دقيق على زمن تأليفها فقد يكون في الفترة الممتدة من القرن الثالث
قبل الميلاد وحتى القرن الأول للميلاد.. ويمكن أن نستشف من أحد المؤرخين الجدد أن
التاريخ القديم في الأسفار إنما هو انعكاس لزمن المكابيين:
يقول
توماس طومسون:
(لقد
وجد كثيرون كلاً من داود ويشوع معكوسين في مرآة يوحنا هيرانكوس أحد الملوك
الحمسونيين لهذه الفترة. ومن المؤكد أن ملكنا الفيلسوف سليمان ما هو إلا إسكندر
ناطق بالعبرانية. تعكس قصص العصر الذهبي للملكية المتحدة خيال وطموحات أورشاليم
المكابيين)
(17).
إن التوراة
والأسفار ليست لها أية مصداقية, ولكن نتعامل مع نص مسلم بصحته كل التسليم عند
الآخرين, وهذا واقع علينا أن ندرسه ونناقشه لا أن نغيبه ونتجاهله. ثم لا بد في
النهاية من وجود مؤلف ما؛ سواء أكان عزرا أم غيره, وليست المشكلة ما اسمه وهل هو
فرد أو مجموعة. كما لا يهم امتداد زمن التأليف في الدراسة, فأولاً وأخيراً هو نص
اعتمد عليه أعداؤنا الصهاينة والمسيحيون المتصهينون لاستعمار بلادنا ولولا هذه
القضية لما وجدنا فيه ما يدفعنا للاقتراب منه.
وأياً كان
المؤلف الذي لا يهمنا أمره ولنفترض أنه عزرا أو س, فهو قد سرق من المنطقة العربية
"العراق وفلسطين وبلاد الشام ومصر.." بعضاً من تراثها من حكايات وشخصيات
وأمكنة وأفكار وتلاعب وزيف ودجل فيها بشكل ما ونسبه إلى الله, ليثبت التالي:
1- اليهود أبناء الله وشعبه
المختار: وهذه الرؤية البدائية دفعته إلى تشويه مفهوم الله القيمة المطلقة والكمال
المطلق المنتشر في المنطقة, ليجسد الإله الخاص الوثني لقبيلة متخلفة طفيلية نرجسية
همجية. وذاك المفهوم قزم العلاقة بين المحدود واللا محدود.
2- السلالات
البشرية اخترعت بهدف إيصال نسب اليهود إلى سام بن نوح عبر أسباط يعقوب بن إسحق بن
إبراهيم, وبأنهم هم محور الوجود بالنسبة ليهوه الوثن, ولإقصاء كنعان باللعنة
الأبدية!
3- بدء الوعد
الإلهي بالأرض الكنعانية وامتداداتها النظرية مع رأس العشيرة إبراهيم ونسله عبر
يعقوب. ولكن سبقت الوعد إرهاصات ارتبطت بقصة قايين وهابيل (18), ثم فيما بعد برؤية حام لعورة أبيه نوح.
4- ادعاء مجيء موسى إلى فلسطين لتكون أرض بني
إسرائيل، على حساب شعبها. وهي نقطة التحول إلى التطبيق العملي المتخيل.
5- ادعاء تكوين مملكة لداود وسليمان
في فلسطين وبلاد الشام, وهي تمثل ذروة الحلم الاستعماري. وبالتالي يبقى الحلم
الموهوم نقطة الالتقاء المقزم بين المحدود واللامحدود مهما طال الزمن.
وتلك النقاط الأساسية التي ثبتها
المؤلف في الأسفار, سواء أكانت على أرض فلسطين أم في غرب الجزيرة العربية أم في
أية بقعة من بقاع الأرض وبغض النظر عن مساحتها كبرت أم صغرت.. هي أيديولوجيا
احتلال استعماري ومؤسِسة لمبادئ المنفعة والانتهازية والوصولية وللغاية التي تبرر
الوسيلة, وهذا يعني أنها نقاط لا أخلاقية كاذبة وساقطة, لأنها تتنافى مع قيم الحق
والخير والعدل والعلم والمنطق والعقل, والمثل العليا للإنسان المحترم.. وهذا قمة
التحريف والتزوير على الإطلاق (19).
إن رؤية عزرا
الاستعمارية الطامعة بأرض فلسطين/ كنعان, هي جوهر القضية من ألفها على يائها. فإن
حذفنا فلسطين التي فسرت كأرض للميعاد من الأسفار, ماذا يتبقى من الديانة اليهودية
كما يقول روجيه غارودي!؟
***
الترجمة
اليونانية:
يدعي مؤرخو
العهد القديم ودارسوه أن التوراة وقسماً من الأسفار قد ترجم إلى اللغة اليونانية
في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد, وهي المسماة الترجمة السبعونية (السبعينية), فقد ذكر ديورانت:
(وتقص
إحدى القصص الخرافية كيف دعا بطليموس فلدلفس، عملاً بمشورة دمتريوس الفاليري,
سبعين عالماً من علماء اليهود إلى المجيء من بلادهم في فلسطين في سنة 250
"ق.م", وكلفهم بترجمة كتبهم المقدسة....) (20).
إن بعض الأسفار ترجمة لنصوص آرامية/
سريانية (يطلقون عليها زوراً اللغة العبرية) سابقة عليها إلى اللغة اليونانية.
وبعضها ألف للمرة الأولى باللغة اليونانية مباشرة ولم يكن لها أي نص سابق تترجم
عنه, ثم
تتابع التأليف والإضافة على امتداد الفترة اللاحقة. وتعد تلك النسخة أقدم ترجمة
للعهد القديم.
والمجموعة التي قامت
بها "70 حبراً أو 72" ثبتت تسمية اليهود على نفسها وعممتها إلا أنها لم
تنسلخ كلياً من مصطلحي بني إسرائيل والعبرانيين.
وقد حققت النسخة اليونانية رغبات
يهود الإسكندرية بنقل الديانة اليهودية من الخصوصية إلى العالمية, وتبنيها لعالم
الأعمال المالية والتجارية وأخلاقية تلك المهنة.
لقد قيل الكثير عن الدقة والأمانة في
تلك النسخة وما تم تحريفه. ففي تراثنا القديم
قال ابن حزم إن الترجمة السبعينية تختلف عن التوراة التي كتبها عزرا:
(وأيضاً فإن في التوراة التي ترجمها
السبعون شيخاً لبطليموس الملك بعد ظهور التوراة وفشوها, مخالفة
للتي كتبها لهم عزرا الوراق..).. (فقد
وضح اليقين وكذب السبيعن شيخاً وتعمدهم لنقل الباطل وهم الذين عنهم أخذوا دينهم) (21).
كما ذكرت الموسوعة الكتابية الترجمة بقولها:
(ليست الترجمة السبعينية على
مستوى واحد في كل الأسفار، ومن السهل إدراك أنها من عمل مترجمين
عديدين. فترجمة الأسفار
الخمسة الأولى ترجمة جيدة بوجه عام. أما الأسفار
التاريخية ففيها الكثير من عدم الدقة والالتزام بالنصوص وبخاصة في الملوك الثاني. كما لا تظهر روعة الشعر العبري في الترجمة
السبعينية، لا لنقص في الدقة فحسب، بل وأيضاً لمحاولة الترجمة الحرفية. كل ذلك يدل على أن من قاموا بالترجمة لم
يكونوا متمكنين من ناصية العبرية، أو أنهم لم يراعوا الدقة، أو لم يبذلوا الجهد
الكافي في تحري المعاني..)..
وقد تعرضت للتنقيح في القرن الرابع,
ثم انتشرت في:
(الكنائس
الشرقية. ولقد كانت السبعينية هي الأساس لكثير من
الترجمات الشرقية القديمة للعهد القديم) (22).
ويرى د. أحمد
داود أن نصوص الأسفار إنما وضعت في تلك الفترة أي لم تكن هناك ترجمة, وإنما تأليف
اعتمد على النقل من تراث المنطقة العربية وتم فيه تشويه صورة الموحدين من الآباء
العرب.. وقد تم ذلك في القرن الثالث قبل الميلاد غرب الجزيرة بعد العودة مباشرة من
السبي البابلي إلى المنطقة التي عاشت فيها القبائل الإسرائيلية قبل السبي. وكل تلك
الأحداث جرت غرب الجزيرة العربية حتى السبي نفسه, وذاك وجه من وجوه التزوير كما
يقول. وهو يرفض أيضاً التواريخ السائدة عند الغرب ويعيده ثلاثة قرون إلى الوراء
بما في ذلك ميلاد المسيح (23).
***
التحريف
والتزوير الجغرافي:
تلك هي رؤية القدماء للتحريف والتزوير على اختلاف
وجهات نظرهم. أما في عصرنا فقد تم اكتشاف تزوير وتحريف آخر لم ينتبه له القدماء, لأنهم كانوا في عصر السيادة العربية الإسلامية. ولكن كان يجب البحث عن الحقيقة سواء أكان الذي يبحث عنها
في موقع الضعف أم القوة.
لقد فتح
الاستعمار الغربي الآفاق أمام الكتبة الغربيين ليزوروا ما يناسب أطروحاتهم, ونحن -
الفلسطينيين المستهدفين خاصة – دفعنا ثمن ذلك, فقد كنا أسرى التحريف والتزوير
قديماً وحديثاً!
هناك من الباحثين الغربيين والعرب من رأى أن
التحريف والتزوير قد وقع على جغرافية التوراة, فقد طابق أسماء الأمكنة الجغرافية
التوراتية - رغم تزوير عزرا والسبعينية - على منطقة عسير غرب الجزيرة العربية!
ومن هؤلاء الدارسين الغربيين كيتاني وهومل وكلاسر وونكلر..
وقد ذكر د. جواد علي آراء أولئك في
مطابقة الأعلام على منطقة غرب الجزيرة العربية التي كانت أوديتها تفيض بالخيرات
إلى أن حل الجفاف. فهو يبدأ حديثه عن تصور العالم الإيطالي كيتاني:
(بلاد العرب في الدورة الجليدية جنة، بقيت محافظة على بهجتها ونضارنها مدة
طويلة وكانت سبباً في رسم تلك الصورة البديعة في مخيلة كتاب التوراة عن "جنة
عدن". وجنة عدن المذكورة في العهد القديم هي هذه الجنة التي كانت في نظر
"كيتاني" في جزيرة العرب. غير أن الطبيعة قست عليها، فأبدلتها صحارى ورمالاً... ).. ويتابع:
(وقد تصور "كيتاني" أودية
جزيرة العرب، مثل وادي الحمض ووادي السرحان ووادي الرمة ووادي الدواسر، أنهاراً
كانت ذات مياه غزيرة تنساب إليها من المرتفعات والجبال في الدهور الغابرة، أثرت
فيها التغيرات الطبيعية المذكورة، فقلت من مياهها حتى جفت، فصارت أودية، لا تجري
فيها المياه إلا أحياناً، إذ تسيل فيها السيول بعد هطول الأمطار.
وقد ذهب إلى هذا الرأي المستشرق
الألماني "فرتز هومل" أيضاً، فرأى أن الأنهر المذكورة في التوراة على
أنها أنهر جنة "عدن"، هي أنهر تقع في بلاد العرب، وأن الأنهر المشار
إليها، هي وادي الدواسر، ووادي الرمة، ووادي السَّرحان، ووادي حَوْران. وأما
"كلاسر"، فذهب إلى أن نهري "جيحون" و "فيشون"، وهما
من أنهر "جنة عدن" الأربعة في رواية التوراة، هما في جزيرة العرب..) (24).
فكيتاني صاحب نظرية الجفاف الذي أدى
إلى الهجرات نحو الشمال, وقد قسم الجزيرة إلى قسمين شرقي وغربي, فالغربي وعلى
امتداد شرقي ساحل البحر الأحمر توصل إلى مدنيّة راقية وهي موطن التوراة وأحداثها,
ثم لحقت به فترة الجفاف بعد أن أتت على القسم الشرقي من الجزيرة.
كما يذكر د. جواد علي خلال حديثه عن
إحدى الوثائق, رأي ونكلر حول مكان أرض "مجان" و "ملوخا",
المذكورتين في نصوص الألف الثالثة قبل الميلاد:
(أن "كوش" تقابل مصر التي هي القسم
الشمالي من جزيرة العرب. فما ذكر عن "كوش" ومصر في التوراة، لا يقصد به
الحبشة ومصر، بل يقصد به جزيرة العرب وشمالها. وقد جاء على ذلك بأمثلة من العهد
العتيق، ذكر أن من الصعب أن يكون المراد بها مصر والحبشة.
وقد ألف "ونكلر" رسالة
سماها "مصري وملوخا ومعين" بَيَّنَ فيها رأيه في أن "مصري" هي
أرض عربية شمالية، وأن مصر المذكورة في التوراة هي في بلاد العرب، لا في إفريقية)
(25).
ومن الباحثين العرب الذين تبنوا تلك النظرية د.
كمال الصليبي و د. أحمد داود حيث طابقا جغرافية العهد القديم وأيضاً حياة المسيح,
على جزيرة العرب منطقة عسير جبال غامد.
فهما صادقا على قضية أرض الميعاد
والمملكة ولكنهما جعلا ذلك في غرب الجزيرة العربية وضمن حدود ضيقة. والمشكلة
الأساسية بالنسبة لهما جغرافية الأسفار, والمبالغة في أحداثها!
ويعدّ د. داود أن
التزوير الأول الذي تم إنما هو بنقل جغرافية التوراة من الجزيرة العربية إلى
فلسطين في عهد قسطنطين لأغراض استعمارية:
(المرة الأولى حدثت زمن قسطنطين
البيزنطي لغايات استعمارية صرفة من أجل الاحتفاظ بشريط الأرض العربية الذي يمتد من
البحر الأسود شمالاً وعلى طول الساحل إلى جنوب سيناء, بحجة الاحتفاظ بالأماكن
المقدسة) (26).
ويرى د. الصليبي بأن الإسرائيليين بعد عودتهم من
السبي البابلي إلى مواقعهم السابقة غرب الجزيرة العربية, وجدوا كل شيء خراباً فلم
يتحملوا البقاء, فرحلوا إلى الشمال إلى فلسطين, مسقطين أعلام الأمكنة التي كانت في
الجزيرة على فلسطين (27).
وبناء على ذلك نجد أنفسنا أمام تحريف وتلاعب
وتزوير في الترجمات شمل الأعلام ولا سيما أعلام الأماكن, لإسقاط جغرافية التوراة
على فلسطين, بدلاً من موقعها في الجزيرة العربية كما رأى بعض الغربيين والعرب!
***
التحريف والتزوير في كلمتي كنعان
وفلسطين:
وهناك قضايا
أخرى في فن التحريف والتزوير مارسها الفكر الغربي الاستعماري,
وسنناقش واحدة منها تتعلق بتسمية كنعان وفلسطين.
فإضافة إلى ما
لحق بكنعان من مهانة وإجحاف وقذف واستلاب وتجاهل وتهميش... هناك قضية تجريده من
هويته وكينونته من خلال جعله طارئاً على فلسطين وليس أصيلاً, ومن ثم استبداله
بأجانب غرباء عن فلسطين ادعوا بأنهم الفلسطينيون القادمون من جهة البحر!
وقبل الاستفاضة
بمناقشة هذه القضية القديمة الحديثة التي عدّها كثيرون مسلمة فقفزوا عنها، نؤكد أن
الفلسطينيين كنعانيون والكنعانيين فلسطينيون ولا فرق بينهما فهما اسمان لمسمى
واحد. وقد ذكر ابن حزم بأنهما تسميتان لمسمى واحد, خلال حديثه عن المعارك بين
الفلسطينيين والإسرائيليين والغلبة المتداولة بينهما:
(فملكهم الفلسطينيون
وهم الكنعانيون) (28).
لقد كثرت الآراء حول التسمية بالفلسطينيين
وبالكنعانيين. فقد جاء في التاريخ التقليدي الغربي المرفوض علمياً
وتبعه العربي, أنه تمت موجات من الهجرات العربية الكبيرة، نتيجة القحط الذي حل في
الجزيرة, إلى العراق وبلاد الشام ومصر.. ويذكرون من تلك الموجات الهجرات الأمورية/
الكنعانية بحدود 2500 ق.م. وهم بذلك يريدون تثبيت أن المنطقة كانت خالية من السكان
قبل مجيء تلك الهجرات.
ويريدون أيضاً جعل كنعان غريباً عن المنطقة وليس
أصيلاً وكذلك الفلسطينيين. ولو التزموا النزاهة والأمانة وقالوا إن الكنعانيين هم
الفلسطينيون وكلاهما لم يأت من الخارج لحلت إشكالات كثيرة!
فالكنعانيون/ الفلسطينيون/ الفينيقيون/
السوريون.. شعب عربي واحد كان موجوداً في بلاد الشام "فلسطين وسورية والأردن
ولبنان" منذ عشرات الآلاف من السنين قبل الميلاد، وهذا لا يمنع من مجيء هجرات
عربية أخرى جزيرية أو من العراق.. ولكنها انصهرت وذابت في السكان الأصليين العرب
الكنعانيين أو الفلسطينيين أو السوريين أو الفينيقيين...
وقد قال مؤرخونا قديماً إن الشام كان اسمها أرض
كنعان قبل مجيء الإسرائيليين إليها, وبأنها آلت للإسرائيليين بعد ذلك, ورأيهم مبني
على التوراة والإسرائيليات!
ومع الأسف لا توجد أبحاث علمية نزيهة حول اسم
كنعان الذي ثبتته أسفار العهد القديم. وتبقى قراءة بعض الأسماء الواردة في اللهجات
المصرية والأكادية والفينيقية.. مجرد تكهنات وإسقاطات قسرية. فقد وردت: كناخني،
كنخني، كنخي، كناجي، كنع, كنو, كِناهو كِنانو.. وقد فسروا معناها باللون الأحمر،
والمقصود الذين يتعاطون الصباغ الأحمر/ الأرجواني. ومنهم من فسرها بالمنخفض،
وبالتالي تعني سكان السهول... ومن معانيها التي ذكروها أيضاً النخيل/ التمر...
والذين فسروا معنى كنعاني باللون الأحمر, وحدوا
بينها وبين فينيقي التي تحمل المعنى نفسه, وهذا يعني أن الكلمتين مترادفتان
عندهم..
لقد ذكرت كتب تراثنا أن لغة كنعان تشبه العربية.
وورد عند الحموي في معجم البلدان, عن كنعان أنه:
(عجميٌّ وله في العربية مخارج، يجوز أن يكون من
قولهم: أكْنَعُ به أي أحْلفُ، أو من الكُنُوع وهو الذل، أو من الكَنَع وهو
النقصان، أو من الكانع وهو السائل الخاضع، أو من الكنيع وهو المائل عن القصد، أو
من الأكنع والكنيع وهو الذي تشنّجَتْ يدُه وغير ذلك) (29).
وفي المعاجم العربية نجد كنع النجم مال للغروب,
قرب, لزق ودام, وتكنع تحصن, والكِنْع ما بقي قرب الجبل من ماء..
ويستطيع أحدنا أن يركب المعنى كما يشاء, فلو
طبقنا معنى الغروب يصير الاحتمال بلاد الغروب أو المغيب, ومع معنى التحصن تصير
البلاد الحصينة الممتنعة على الأعداء.. ولكن ذلك أوهام وإسقاطات, ولا نستطيع إثبات
أي معنى دون وثائق أثرية حاسمة!
ومنهم من قال إن اليونان استخدموا تسمية فينيقي
للدلالة على اللون الأحمر الأرجواني, وعنهم أخذها الرومان ولفظوها بونيقي, وكلاهما
لم يستخدم تسمية كنعان.
وقد استخدم كثيرون كمصطفى الدباغ و د. المسيري
كلمة الكنعانيين فقط, لتدل على شعب واحد وصاحب حضارة واحدة امتدت عبر سورية ولبنان
وفلسطين وحوض المتوسط...
والمهم هو أن كلمة كنعانيين ليست نسبة إلى كنعان التوراتي،
كما يدعي عزرا في توراته، ليؤدلج للسلالات البشرية.
وكذلك الأمر اختلفوا حول كلمة فلسطين
والفلسطينيين:
فتراثنا القديم يذكر أصلاً خرافياً لكلمة فلسطين،
إذ أن تسميات الدول والمدن والبلدات عندهم هي في الأصل أعلام الأشخاص الذين بنوها.
يقول ابن خلدون:
(بنو فلسطين من بني حام. ويسمى ملكهم جالوت وهو
من الكنعانيين منهم. ثم بنو مدين، ثم العمالقة. ولم يؤذن لبني إسرائيل في غير بلاد
الكنعانيين، فهي التي اقتسموها وملكوها وصارت لهم تراثاً. وأما غيرهم فلم يكن لهم
فيها إلا الطاعة والمغارم الشرعية من صدقة وغيرها) (30). كما يذكر ابن خلدون أن
شعب فلسطين اندثر كله:
(ودثرت أمة فلسطين وكنعان وشعوبها لهذا العهد،
ولم يبق إلا البربر، واختص اسم فلسطين بالوطن الذي كان لهم) (31)!
ويضعنا الحموي أمام عدد من احتمالات التسمية
الخرافية:
(وقيل إنها سميت بفلسطين بن سام بن إرم بن سام بن
نوح عليه السلام. وقال الزجاجي سميت بفلسطين بن كلثوم من ولد فلان بن نوح. وقال
هشام بن محمد نقلته من خط جخجخ إنما سميت فلسطين بفليشين بن كسلوخيم من بني يافث
بن نوح ويقال ابن صدقيا بن عيفا بن حام بن نوح ثم عربت فليشين) (32).
لم يكن للمؤرخين القدماء موقف ثابت من قضية سلالة
الكنعانيين والفلسطينيين, ففي خرافات الأنساب تارة ينسبونهم إلى حام وأخرى إلى
سام. وتارة يقولون حاسمين الكنعانيون من سلالة حام, وفي الوقت نفسه يتحدثون عن
سلالة لاوذ بن سام فيذكرون عمليق, ويتابعون الحديث عن سلالته فيذكرون أنها سكنت
الشام ومصر وأرض مكة, وأن العمالقة الذين سكنوا الشام هم الجبابرة الكنعانيون!
وأكثر من هذا يذكرون أن بني إسرائيل قضوا على
الكنعانيين نهائياً, ومن تبقى منهم صار إلى شمال إفريقيا وهم أصل البربر! وفي
حديثهم عن عصر القضاة ثم صموئيل وداود يذكرون العمالقة بأنهم الفلسطينيون وملكهم
جالوت في عهد داود. وبعضهم يجعله من نسل حام وبأنه من الكنعانيين كابن خلدون,
وبعضهم يعدهم من نسل عمليق بن لاوذ, وينسى أنه ذكر أن عمليق أبو العمالقة وهم الكنعانيون!
إن كلمة فلسطين عربية سريانية/ فينيقية.. شأنها
شأن كلمة كنعان، وليست نسبة للِبيلست الغرباء.
واللفظة الواردة سواء في الأسفار أم المنطوقة
تلفيقاً من لهجات أخرى, والمسقطة تأويلاً لتشابه الواردة في الأسفار مثل (بليست, بلستي/
فلسطي، بالاستو/ فالاسطو، بلاسجن, بلشتا, بلاشتو، بليشتي, فلست/ فلسط, فلستيا/
فلسطيا, فيليست...), تحتاج إلى قراءة جديدة موضوعية ودراستها بنزاهة, فما تم كله تخمينات.
فالدراسة المقارنة للآثار والنصوص عندما تؤدلج لأهداف استعمارية, أو تعصبات ضيقة لا
يبقى شيء اسمه العلم, كما أن التخمينات معيبة في أمور تتطلب اليقين الذي لا شك
فيه!
لقد ثبتت ترجمات أسفار العهد القديم إلى العربية
والإنكليزية وغيرها, الأعلام المكانية الواردة فيها لتطابق أعلام الأمكنة في
فلسطين.
ففي النسخة العربية والإنكليزية نجد الأعلام مثل
كنعان والكنعانيين وفلسطين والفلسطينيين وأسماء المدن والقرى الفلسطينية المختلفة,
إضافة إلى أعلام في منطقة بلاد الشام ومصر والعراق.
وقد وردت فلشتيم وكفتور في الأسفار: [13
ومصرايم ولد لوديم وعناميم ولهابيم ونفتوحيم
14 وفتروسيم
وكسلوحيم. الذين خرج منهم فلشتيم وكفتوريم] (تكوين - إصحاح 10), (أخبار الأيام الأول – الإصحاح 1 - الآية 11, 12).
كما ذكر أن الفلسطينيين من كفتور [والفلسطينيين
من كفتور] ( عاموس - إصحاح 9 - آية 7).
ووردت فلسطين "بالِستين, بالستاين" في
نسخة الملك جيمس (Palestine) مرة
فقط, بينما "بالِستينا" (Palestina) وردت ثلاث مرات. أما كلمة الفلسطينيين (Philistines) فقد وردت 244 مرة.
وفلشتيم صارت فلسطين عند بعضهم, وجزيرة كفتور
تكهنوا بأنها كريت أو من بحر إيجة.. وهذا يفرض عليهم أن يسموا الفلسطينيين
بالكفتوريين أو الإيجيين.. أم أن الكفتوريين وفلشتيم شعبان من سلالة فتروسيم
وكسلوحيم كما تزعم التوراة في سلالاتها الخرافية!
وفي تاريخ هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد
نجد استخدامه تسمية فينيقيا وسورية للتعبير عن المنطقة. كما يستخدم كلمة فلسطين
ويعدها جزءاً من سورية: (جزء من سورية يسمى فلسطين) (33).
وهو عندما يتحدث عن الفينيقيين وسوريي فلسطين
يذكر الساحل بأنه (ساحل بحر سورية)..
وفلسطين: (هذا الجزء من سورية وكل المنطقة
الممتدة بعيداً من هنا وحتى مصر معروفة باسم فلسطين) (34).
ويعرف شعب فلسطين بأنهم: (سوريو فلسطين) (35).
إن المؤرخين الغربيين واللاهوتيين ومن دار في
فلكهم, يزعمون أن أصل الفلسطينيين غرباء مهاجرون جاؤوا من البحر (كفتور/ كريت..)
حوالي عام 1188 ق.م, وسكنوا الساحل, وهو زعم كاذب يعتمد على نص الأسفار "سفر
إرميا وسفر عاموس"!
وقد زيفوا قراءة وترجمة كثير من النصوص القديمة،
لتوافق نص الأسفار. كقراءتهم للسجلات المصرية في عهد رمسيس الثالث (1198 – 1167 ق.م):
فالقراءة تتحدث عن معارك رمسيس الثالث ضد الشعوب الخمسة "شعوب البحر"
التي جاءت من جزر بحر إيجة ومن بينها البيلست أو البليست/ فِلِست, وتذكر قضاء رمسيس على أربعة منهم, وبأنه لم يبق لهم وجود إلا قلة تبعثرت
وانتهت, أما الشعب الخامس فهو البيلست الذي بقي واستوطن ساحل فلسطين وبنى خمس مدن سكنها
وعاش فيها, وهي (غزة وجت وأشقلون وأشدود وعقرون)..
وتلك القراءة المزيفة تسقط للأسباب التالية:
1- ذكرت التوراة أن الفلسطينيين موجودون في
فلسطين قبل مجيئهم البحري المزعوم بمئات القرون, منذ أن وطئت قدما إبراهيم أرض
فلسطين حوالي منتصف القرن التاسع عشر ق.م, فقد جاء في سفر التكوين: [وتغرب إبراهيم
في أرض الفلسطينيين أياماً كثيرة] (إصحاح 21 - الآية 34), وهناك آيات كثيرة في سفر
التكوين تؤكد ذلك.
2- ليس ترك رمسيس لشعب البيلست/ فِلست, وحده حياً
ليحتل قسماً من الساحل فيستوطنه ويقيم مدناً, إلا ليتوافق مع نص الأسفار.
3- المدن الخمس مبنية ومسكونة قبل التاريخ
المزعوم عن مجيء البيلست!
4- على أي أساس فسروا كفتور بكريت أو غيرها.. وأين
بقايا شعبها الذين لم يهاجروا؟ أم علينا أن نقتنع من المؤرخين المزيفين
واللاهوتيين بأن البيلست جاؤوا كلهم دون استثناء، ثم اختفت آثارهم كلها من المكان
الذي قدموا منه, ولم يخلدوا تلك الذكرى المفصلية في حياتهم أبداً, لا في موطنهم
الأصلي ولا في موطنهم اللاحق؟!
5- ادعى المؤرخون الغربيون الدائرون في فلك
التوراة, أن البيلست ذابوا في الكنعانيين فيما بعد, ومنهم من يقول العكس!
إذا ذاب أولئك الفلسطينيون في الكنعانيين فمعنى
ذلك أن اسمهم سيندثر. فكيف يعللون بقاء الاسم في الذاكرة لمئات السنين؟!
الرومان لم يخترعوا التسمية من العدم, فهل رجعوا إلى تاريخ هيرودوت
أو يوسيفوس.. لإحياء تسمية الفلسطينيين, أو إلى التوراة نكاية باليهود, وأكثر من
هذا هل هم أطلقوا اسم فلسطين على أرض كنعان لمزيد من إغاظة اليهود!؟
كيف يقبل الغربيون بسرد هكذا رأي, وأسفار العهد
القديم - والتي يلفقون الأمور من أجلها - بقيت تذكرهم بالتسمية "الفلسطينيين"،
حتى النفس الأخير منها!؟
فمن الذي ذاب في الآخر: الكنعانيون أم
الفلسطينيون؟ لم يذب أحدهما في الآخر فهما شعب واحد في الأصل, ولكن إسقاط
التسميتين وفصلهما إنما هو لغاية سياسية ودينية!
إن الرومان لم يخترعوا التسمية, بل ثبتوا شيئاً
متداولاً, وهذا الأمر مقبول إذا صحت المعلومات عن دور الرومان ذاك, ولم تسقط عليهم
من الغربيين. فهم يدعون أن الإمبراطور الروماني هدريان في الثلث الأول من القرن
الثاني الميلادي أراد أن يبني معبداً وثنياً لجوبتر على أنقاض معبد اليهود (الذي
دمره تيتوس سنة 70 للميلاد) كما ضايق على اليهود فمنع الختان وتعليم الشريعة
اليهودية علناً.. فثار اليهود "132 – 135 ميلادي" بقيادة باركوخبا/
باركوخيبا/ باركوشيبا/ الذي ادعى أنه المسيح المنتظر, فقضى هدريان عليه وعلى تمرده
ونكل باليهود وطردهم من فلسطين نهائياً فانتشروا في العالم. وقد قيل إنه دمر (985) مدينة في فلسطين, وذبح (580) ألف يهودي, والذين ماتوا حرقاً أو جوعاً أكثر. ومن ثم أعاد بناء
مدينة القدس وغير اسمها إلى إيليا كابيتولينا, وبنى معبدين لجوبتر وفينوس (36).
وقد صارت فلسطين تعرف منذ ذاك الوقت بسورية
الفلسطينية كما يقول بعضهم, ومنهم د. المسيري الذي يذكر أن كلمة
فلسطين شاعت منذ ذلك الوقت:
(وقد استخدم الرومان كلمة «بالستينا» للإشارة إلى هذه المنطقة بشكل رسمي ابتداءً من عام 138 بعد الميلاد، وقد ظلت المنطقة المشار إليها تُعرَف بهذا
الاسم حتى الوقت الحالي) (37).
ولم يكتف الغرب الاستعماري واللاهوتي المتحيز
للتوراة بذاك, بل زور وشوّه حتى معنى كلمة فلسطيني نفسها؛ ففي معاجمه مثلاً، حرّف
المعنى الأصلي للكلمة وهو يتعلق باللون أو بمهنة التجارة والتجار.. إلى معنى المادي,
الجهل والتخلف, والجمود و... وهي صفات أطلقتها أسفار العهد القديم على الفلسطينيين
فجعلها الغرب معنى لاسم العلم!
***
إن شعب فلسطين القديم كله كنعاني فلسطيني فينيقي
سيرياني... سمه ما شئت فهي تسميات لمسمى واحد, فلا بد أن يأتي يوم تتحرر فيه
المعطيات الآثارية والنصية من أسر الفكر الاستعماري, والتعصب, خاصة في فلسطين
المحتلة, وستظهر الحقيقة المغيبة!
فالشعب الفلسطيني/ الكنعاني واحد, أصيل في أرضه
سهلاً وساحلاً وجبلاً وصحراء ووديان.. وهو جزء من شعب سورية الكبرى
"السريان", ولغته هي اللغة الفينيقية/ الآرامية/ السريانية, وهي العربية
القديمة.. والمنطقة كلها تشكل وحدة حضارية.
والهدف الاستعماري واضح وهو: تجاهل وتغييب وجود
كنعان والفلسطينيين، وتحطيم شأنهم بل إزالتهم من الوجود، وإبقاء اليهود فقط، الذين
نسبوا أنفسهم للإسرائيليين المالكين بالوراثة اليهوية لفلسطين وتاريخها القديم,
وهذه أخطر قضية في التحريف والتزوير, ولكن تلك الخزعبلات بدأت بالتصدع!!
***
نستنتج مما ذكر أن هناك إجماعاً حول تحريف وتزوير
أسفار العهد القديم، ولكن هناك آراء متعددة متضاربة ولكل منها رؤيته وفهمه لموضوع
التحريف والتزوير ما بين مبنى النص التوراتي أو معناه عند بعضهم, أو التفسير
والتأويل عند آخرين, أو الترجمة عند كثيرين, أو الزمن والمكان عند آخرين..
وقضية التحريف والتزوير قديمة وحديثة, وفي
طليعتها جريمة اقتلاع شعب وحذفه من التاريخ والذاكرة والوجود!
* *
*
هوامش
الفصل الثاني: قضية التحريف والتزوير
(1) تاريخ ابن خلدون: المجلد 2 - ص 7 , 8.
(2) ابن
كثير: البداية والنهاية - ج 2 – ص 134.
(3) المصدر
السابق: ج 2 – ص 145.
(4) المصدر
السابق: ج 2 – ص 149.
(5)
المصدر السابق: ج 2 – ص 147.
(6) المصدر
السابق: ج 2 – ص 148.
(7) الفصل في
الملل والأهواء والنحل: ج 1 - ص 152.
(8) المصدر
السابق: ج 1 - ص 141.
(9) المصدر
السابق: ج 1 - ص 157.
(10) راجع
الكتاب المذكور: ج 1 - ص 82 وما بعد..
(11) المصدر
السابق:
ج 1 - ص 102.
(12) المصدر
السابق: ج
1 - ص 128.
(13) المقدسي:
البدء والتاريخ - ج 3 - ص 115 , 116.
(14) السموءل بن
يحيى بن عباس المغربي: إفحام اليهود - ج
1 - ص 139.
(15) المصدر
السابق
- ج 1 - ص 140.
(16) ابن الجوزي:
المنتظم في تاريخ الملوك والأمم - ج 1 - ص 412.
(17)
توماس طومسون: الماضي الخرافي – التوراة والتاريخ – ص 330. وقد كان بروفسور علم الآثار في جامعة ماركويت في
ميلووكي بالولايات المتحدة, إلا أنه فصل من الجامعة لأنه عبر عن رأيه
المخالف للصهيونية
عام 1992 بعد نشر كتابه: التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي من النصوص الكتابية
والآثارية!
(18) قايين في التوراة كان فلاحاً مزارعاً,
وهابيل راعياً. وبنو إسرائيل كانوا رعاة متنقلين, أما شعب كنعان فكان مستقراً
ويعمل في الزراعة.. فقايين رمز لكنعان وهابيل رمز لبني إسرائيل. وما أراده عزرا هو
أن الله قبل الرعاة أي بني إسرائيل ورفض الفلاح أي كنعان. فقام كنعان بقتل ابن
الله هابيل حسداً وغيرة. فكنعان ارتكب الجريمة الأولى في تاريخ البشرية, وهو بذاك
يكون المشرع الأول للجريمة والشر والفساد في العالم كما يرى عزرا!!
(19) راجع
كتاب "الشخصيات الأسطورية في العهد القديم وثالوث عزرا": لجميل خرطبيل.
(20)
ول ديورانت: قصة
الحضارة – المجلد الرابع –
الجزء 8 – ص 77.
وديورانت
كغيره من المؤرخين الغربيين المزيفين لتاريخ فلسطين القديمة إذ يستخدم "بلاد
اليهود" متجرداً من نزاهته كباحث محترم هو وغيره من الأوروبيين عندما يتعلق
الأمر باليهود!!
(21) ابن حزم:
الفصل في الملل والأهواء والنحل - ج 1 - ص 148.
(22) دائرة المعارف الكتابية حرف التاء
-
الترجمة
السبعينية للعهد القديم.. وقد ذكرت أن
صاحب تلك الرواية "الخرافة" الفيلسوف اليهودي فيلو الإسكندري (30 ق.م - 45 م)
وعنه نقلها المؤرخ اليهودي يوسيفوس.
ويعطي د. المسيري أمثلة حول التحريفات
في الترجمة السبعينية, نذكر واحداً منها:
(وتم تغـيير
عبـارة "آرامياً تائهاً كان أبي فانحدر إلى مصر وتغرَّب هناك" "تثنية
26/ 5", فصارت "أبي
ترك سوريا وذهب إلى مصر"..) [موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: المجلد الخامس - اليهودية.. المفاهيم والفرق – الترجمة
السبعينية].
(23) د. أحمد
داود: العرب والساميون والعبرانيون وبنو إسرائيل واليهود – ص
279. وراجع كتابه: تاريخ سوريا القديم (تصحيح وتحرير).
(24) د. جواد علي: المفصل في تاريخ
العرب قبل الإسلام - الجزء الأول - الفصل السادس - وطن الساميين.
(25) المرجع السابق - الفصل الثالث
عشر - تأريخ الجزيرة القديم.
(26) د. أحمد داود: العرب والساميون
والعبرانيون وبنو إسرائيل واليهود -
الصفحة 252.
(27) د. كمال الصليبي: التوراة جاءت من جزيرة العرب – الصفحة 40.
(28) ابن حزم:
الفصل في الملل والأهواء والنحل – ج 1 - ص 142.
(29) ياقوت الحموي: معجم البلدان – ج 4 – ص 484.
(30) تاريخ ابن خلدون: المجلد 2 - ص100.
(31) المرجع السابق: م 7 - ص 6.
(32) الحموي: معجم البلدان - ج 4 - ص 274.
وعند ابن عساكر في كتابه "تاريخ دمشق"
نجد رواية يذكر فيها أن الشام منسوبة إلى فلسطين زمن النبي إبراهيم (وكانت الشام يومئذ منسوبة إلى فلسطين) [ج 69 – ص 182]!!
(33) تاريخ هيرودوت: النص الإنكليزي - الكتاب
الثاني – ص "الشاشة" 250. وبما أننا اعتمدنا على النص الإنكليزي, فنحن
لا نعرف مدى مصداقية الترجمة؛ فهل حقاً استخدم هيرودوت بعض تلك التسميات في
مخطوطته اليونانية الأصلية, أم أن المترجم راولنسون أسقطها بناء على قراءة مغلوطة!
(34) المصدر السابق: الكتاب السابع – ص
"الشاشة" 827.
(35) المصدر السابق: الكتاب الثاني – ص
"الشاشة" 249.
(36) ول ديورانت: قصة الحضارة – المجلد 6 – الجزء
11 – ص 194, 195.
ويذكر ديورانت الجرائم المتتالية التي كان اليهود
يرتكبونها, كما يذكر مصطفى مراد الدباغ الفظائع التي ارتكبها اليهود ضد الرومان
والسكان, لدرجة أنهم كانوا يأكلون لحوم من
يقتلونهم ويشربون دماءهم ويحتزمون بأمعائهم.. وهذا ما يعلل ضرب هدريان ومن قبله
تراجان لهم. فليس ما يسمى بالثورة هو نتيجة نية هدريان بناء معبد أو منعهم من أداء
الختان وغيره كما تدعي موسوعة الكتاب المقدس والمؤرخون الغربيون.
راجع كتاب بلادنا فلسطين لمصطفى مراد الدباغ –
الجزء 1 – القسم 1 – ص 659.
(37) د. عبد
الوهاب المسيري:
موسوعة اليهود
واليهودية والصهيونية – مادة فلسطين. ولا ننسى أن د. المسيري في موسوعته قد ثبت
المفاهيم الصهيونية والغربية الاستعمارية!
*
* *
الفصل الثالث:
المؤرخون العرب القدماء
إن التاريخ هو ذاكرة الشعوب, وتاريخنا القديم
مفخرة لنا, فقد كانت أرض العرب في فلسطين وبلاد الشام والعراق ومصر أرض الحضارة,
وما قدمته للبشرية يبقى إلى الأبد في ذاكرة العالم!
وقد غيّب المؤرخون العرب القدماء التاريخ والحضارات
في العصور القديمة قبل الميلاد, لصالح التوراة وأسفار العهد القديم. فانسياقهم خلف
الرواية التوراتية أبعدهم عن معرفة الحقيقة وعن التمييز بين التاريخ العلمي
والتاريخ الديني. فهم ليسوا مؤرخين حقيقيين لذاك الماضي, وإنما هم مدونو معلومات
وقصاصون. ولم يبالوا إذا تعارضت وتناقضت, أو لم يتقبلها عاقل!
لكن ما يجب تسجيله هنا كنقطة مضيئة هي أن المؤرخين
العرب القدماء تناولوا فلسطين وبلاد الشام بعد التحرير العربي الإسلامي من الروم
في عهدي الخليفتين أبي بكر وعمر بن الخطاب، كأرض عربية إسلامية طوت صفحة الماضي
السحيق وأنهت المشروع التوراتي.
***
إن القرآن الكريم يروي تاريخاً دينياً, فقصص
الأنبياء تركز على الأحداث والأفكار ولكنها لا تهتم بالبيئة الزمانية والمكانية,
لذلك نجدهما بالصيغة العامة دونما تحديد كما تحدثنا سابقاً. والمؤرخون هم الذين
أقحموا الزمان والمكان المحددين في الحكايات القرآنية بالاستناد إلى أسفار العهد
القديم والتلمود والأناجيل والقصص الشعبية عند اليهود والمسيحيين, وغطت المخيلة ما
تبقى من ثغرات لاستكمال بناء الحبكة المشوقة!
وقد بدأت حكاية التاريخ عند مؤرخينا بداية دينية,
هدفها توضيح التكوين وبدء الخليقة وقصص الأنبياء.. ولم يكن هدفهم كتابة تاريخ
فلسطين ولا تاريخ العرب وبلاد الشام, فهذه القضية لم تكن تعنيهم إنما كان الهدف
تاريخ حياة الأنبياء. وكانت تلك الموضوعات متداخلة في القرآن, فلجؤوا إلى فصلها
وتجميعها مقلدين التسلسل الزمني في التوراة وبقية الأسفار.
ولعل العقلية في تلك الأزمان لم يكن يرضيها إلا
ما هو غير مألوف في الحكاية أو في بطلها فهي تريده خارقاً للمألوف, لتشبع أحلام
اللاشعور تجاه حياة فيها شيء ما لا يرضيهم ويريدون اختراقه. فيلبي القاص للمعلومة
ذاك التوجه وذاك الفضول فيزيد من التشويق بما يسمح له خياله الخصب, ويستفيض في بحر
من الأكاذيب كلما وجد جمهوره مأخوذاً أكثر بما يقول!
***
لن نتناول التاريخ القديم كله, وإنما ما يتعلق
بفلسطين وشعبها وهذا يرتبط مباشرة بقضية الأنبياء.. والحديث عن شعب كنعان لا بد أن
يجرنا إلى قضية السلالات الخرافية والتي أفرزت كنعان كمجرم في عرف عزرا مؤلف
التوراة.
ولن نتطرق إلى
القضايا كلها عند كل واحد من المؤرخين, فهناك تنوع بين التكرار والتفرد.. ونحن لو
اكتفينا بالطبري لكفى أو لو أضفنا ابن الأثير وابن خلدون لبلغنا الهدف من البحث,
لكن تعميم النتيجة يحتاج إلى استقراء نماذج متعددة.
وسنتناول
القضايا الرئيسية التالية:
1- خرافة
السلالات البشرية.
2- هجرة إبراهيم
ومن معه إلى فلسطين, وعصر الآباء...
3- خروج موسى من
مصر والمجيء إلى أرض كنعان. ودخول يوشع عبر البوابة أريحا...
4- مملكة داود
وسليمان المزعومة.
5- بعض أخبار
السبي وإفرازاته.
***
محمد بن جرير
الطبري أبو جعفر "توفي 310 هـ"
"تاريخ
الأمم والملوك"
أبو المؤرخين
وعميدهم, كما هو هيرودوت أبو التاريخ عند اليونان. وهو النبع لمن بعده من المؤرخين
وإن سبقه اليعقوبي, وقد قال عنه المسعودي:
(وأما تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير
الطبري الزاهي على المؤلفات، والزائد على الكتب المصنفات، فقد جمع أنواع الأخبار،
وحَوَى فنون الآثار، واشتمل على صنوف العلم، وهو كتاب تكثر فائدته، وتنفع عائدته،
وكيف لا يكون كذلك ومؤلفه فقيه عصره، وناسِكُ دهره، إليه انتهت علوم فقهاء
الأمصار، وحَمَلَة السنن والآثار) (1).
يعتمد منهج
الطبري على النقل, وقام بسرد أخبار الماضين والقصص والحكايات دونما تمحيص, كما
يعترف هو بذلك:
(وليعلم الناظر في
كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه, إنما هو
على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها
فيه دون ما أدرك بحجج العقول واستنبط بفكر النفوس إلا اليسير القليل منه. إذ كان
العلم بما كان من أخبار الماضين وما هو كائن من أنباء الحادثين غير واصل إلى من لم
يشاهدهم ولم يدرك زمانهم إلا بإخبار المخبرين ونقل الناقلين دون الاستخراج بالعقول
والاستنباط بفكر النفوس. فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما
يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة ولا معنى في
الحقيقة, فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا,
وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا) [ج 1 - ص 13].
ومن هنا لا يمكن
عدّه مؤرخاً للماضي بقدر ما هو جامع للأخبار والحكايات. وقد خلط الحقائق بالخيال
والخرافات والأساطير, وكان للإسرائيليات حظ وافر في كتابه. وهو قد يذكر عدداً من
الروايات للخبر الواحد والتي قد تتقاطع أو تتعارض فيما بينها, وربما يتدخل في
النهاية لترجيح رواية على أخرى.
والشخصيات عنده هي
الأساس في تاريخه, وكتابه إنما كان من أجل ذلك, وهو وإن حدد زمان ومكان شخصياته
وأحداثه بالاستناد إلى الإسرائيليات, فإنما هو فضاء حركة الشخصية, وفي ذلك يقول إن
كتابه هو:
(تاريخ
الملوك الماضين وجمل من أخبارهم وأزمان الرسل والأنبياء ومقادير أعمارهم وأيام
الخلفاء السالفين وبعض سيرهم ومبالغ ولاياتهم والكائن الذي كان من الأحداث في
أعصارهم) [ج 1 - ص 13].
خرافة السلالات
البشرية:
أول ذكر لفلسطين
عند الطبري عندما يتحدث عن وفاة آدم حيث يذكر في إحدى الروايتين اللتين يذكرهما
بأن نوحاً حمله معه في السفينة, ولما انتهى الطوفان دفنه في بيت المقدس:
(عن ابن عباس قال
لما خرج نوح من السفينة دفن آدم عليه السلام ببيت المقدس) [ج 1 - ص 101].
ويذكر أن أولاد آدم
كلهم انقرضوا إلا من كان من نسل شيث:
(وذرية آدم كلهم
جهلت أنسابهم وانقطع نسلهم إلا ما كان من شيث بن آدم فمنه كان النسل, وأنساب الناس
اليوم كلهم إليه دون أبيه آدم فهو أبو البشر إلا ما كان من أبيه وإخوته ممن لم
يترك عقباً) [ج 1 - ص 104].
ومع ذكر الطوفان
يتحدث عن كنعان في إحدى رواياته على أنه الغريق الذي رفض أن يركب في السفينة:
(وقيل إنه كان لنوح
قبل الطوفان ابنان هلكا جميعاً كان أحدهما يقال له كنعان. قالوا وهو الذي غرق في
الطوفان, والآخر منهما يقال له عابر مات قبل الطوفان) [ج 1 - ص 119].
ويؤكد برواية أخرى
عن ابن عباس بأن الغريق كنعان. إلا أنه يعود فيستنسخ كنعان آخر يجعله ابناً لحام
ويزوجه ليكوّن نسله, وهو المطابق للتوراة:
(ونكح كنعان بن حام
بن نوح أرتيل ابنة بتاويل بن ترس بن يافث بن نوح فولدت له الأساود نوبة وفزان
والزنج والزغاوة وأجناس السودان كلها) [ج1 - ص 125].
وبعد انتهاء
الطوفان يقسم نوح الأرض بين أبنائه الثلاثة:
(فلما هبط نوح
وذريته وكل من كان في السفينة إلى الأرض قسم الأرض بين ولده أثلاثاً: فجعل لسام
وسطاً من الأرض ففيها بيت المقدس والنيل والفرات ودجلة وسيحان وجيحان وفيشون وذلك
ما بين فيشون إلى شرقي النيل وما بين منخر ريح الجنوب إلى منخر الشمال, وجعل لحام
قسمه غربي النيل فما وراءه إلى منخر ريح الدبور, وجعل قسم يافث في فيشون فما وراءه
إلى منخر ريح الصبا) [ج 1 - ص 120].
ويذكر رواية وهب بن
المنبه عن آباء البشرية الأوائل, والتي تداولها المؤرخون جميعاً :
(إن سام بن نوح أبو
العرب وفارس والروم, وإن حام أبو السودان, وإن يافث أبو الترك وأبو يأجوج ومأجوج
وهو بنو عم الترك) [ج 1 - ص 124].
ويبدأ مسخ كنعان
على خلفية توراتية, فيروي عن ابن إسحق عن التوراة قضية رؤية حام لعورة أبيه نوح,
فيغضب نوح ويلعن كنعان بن حام:
(ويزعم أهل التوراة
أن ذلك لم يكن إلا دعوة دعاها نوح على ابنه حام؛ وذلك أن نوحاً نام فانكشف عن
عورته فرآها حام فلم يغطها, ورآها سام ويافث فألقيا عليها ثوباً فواريا عورته.
فلما هب من نومته علم ما صنع حام وسام ويافث فقال: ملعون كنعان بن حام عبيداً
يكونون إخوته. وقال يبارك الله ربي في سام ويكون حام عبد أخويه, ويقرض الله يافث
ويحل في مساكن حام ويكون كنعان عبداً لهم) [ج 1 - ص 125].
لِمَ لمْ يفكر
الطبري بتلك اللعنة التي أحلها نوح على كنعان, مع أن حاماً هو الذي رأى العورة
وكنعان بريء من فعلة أبيه, ألا يتعارض ذلك مع القيم الإسلامية!؟
وهو يعرض روايتين
عن أصل كنعان: الأولى كنعان ابن لحام بحسب المصدر التوراتي, والرواية الثانية يجعل
فيها كنعان من سلالة سام, وهذه الرواية لابن إسحق:
(فنكح لاوذ بن سام
بن نوح شبكة ابنة يافث بن نوح, فولدت له فارس وجرجان وأجناس فارس, وولد للاوذ مع
الفرس طسم وعمليق, ولا أدري أهو لأم الفرس أم لا, فعمليق أبو العماليق كلهم؛ أمم
تفرقت في البلاد وكان أهل المشرق وأهل عمان وأهل الحجاز وأهل الشام وأهل مصر منهم,
ومنهم كانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم الكنعانيون, ومنهم كانت الفراعنة بمصر
وكان أهل البحرين وأهل عمان منهم أمة يسمون جاسم...) [ج 1 - ص 125].
فالكنعانيون هم
الجبابرة وهم من نسل العمالقة, وهم وكل شعوب المنطقة عرب. وعمليق جد العرب جميعاً
شرقاً وغرباً!
ويذكر أن طسم
والعمليق وجاسم... عرب ولكنهم من العرب العاربة:
(فكانت طسم والعماليق وأميم وجاسم قوماً عرباً,
لسانهم الذي جبلوا عليه لسان عربي) [ج 1 - ص 126].
وهذا الكلام "عرب.. لسانهم عربي", رماه المؤرخون العرب المعاصرون وراء ظهورهم ليلهثوا وراء نظرية السامية
التوراتية الاستعمارية!
إذاً يطرح الطبري
سلالتين متناقضتين لكنعان: واحدة تصل إلى سام والأخرى تصل إلى حام, ولكنه يؤكد أن
كنعان من نسل أولاد حام:
(وأما حام بن نوح
فولد له كوش ومصرايم وقوط وكنعان. فمن ولد كوش نمرود المتجبر الذي كان ببابل وهو
نمرود بن كوش بن حام, وصارت بقية ولد حام بالسواحل من المشرق والمغرب والنوبة
والحبشة وفزان. قال ويقال إن مصرايم ولد القبط والبربر وإن قوطاً صار إلى أرض
السند والهند فنزلهما وإن أهلها من ولده) [ج 1 - ص 126].
فسلالة حام نتيجة
اللعنة عبيد وسود "زنوج": (ودعا على حام بأن يتغير لونه ويكون ولده
عبيداً لولد سام ويافث) (ومن ولد حام بن نوح النوبة والحبشة وفزان والهند والسند
وأهل السواحل في المشرق والمغرب. قال ومنهم نمرود وهو نمرود بن كوش بن حام)!
والأمر نفسه يكرره
مع نمرود فهناك روايتان: الأولى ينسب فيها نمرود صاحب النبي إبراهيم إلى كنعان بن
حام!
(ونمرود بن كوش بن
كنعان بن حام بن نوح وهو صاحب بابل وهو صاحب إبراهيم) [ج 1 - ص 128].
والثانية ينسبه
وكنعان إلى سام, ويعده أول كافر يملك الأرض:
(إن أول ملك, ملك
في الأرض شرقها وغربها, نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح) [ج 1 - ص 142] (2).
ونلاحظ الإهانة
التي ألحقها الطبري, والمؤرخون القدماء, بكنعان مزايدين في ذلك على التوراة نفسها.
فكنعان هو:
1- الابن الكافر
لنوح والذي رفض أن يصعد إلى السفينة!
2- الملعون الأبدي
لأن أباه رأى عورة جده "نوح"!
3- أبو نمرود الذي
كفر بإبراهيم, وبربه!
فكنعان المستنسخ
ثلاث مرات, ما هو إلا إبليس البشري المتجسد في الكفرة والأشرار!
لقد تم تقسيم الأرض
بين أبناء نوح كما ذُكر في عهد نوح, ولكن يضعنا الطبري أمام رواية أخرى لمن قام
بتقسيم الأرض بين السلالات: (فالغ بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح هو الذي قسم
الأرض بين بني نوح).
ويتبنى رأي التوراة
بأن كنعان كانت له بلاد الشام, وطبعاً فلسطين من ضمنها, ثم آلت بلاد الشام كلها
للإسرائيليين, فهم ورثة الكنعانيين:
(ولحق قوم من بني
كنعان بالشأم, فسميت الشأم حيث تشاءموا إليها. وكانت الشأم يقال لها أرض بني
كنعان, ثم جاءت بنو إسرائيل فقتلوهم بها ونفوهم عنها فكانت الشأم لبني إسرائيل,
وثم وثبت الروم على بني إسرائيل فقتلوهم وأجلوهم إلى العراق إلا قليلاً منهم, ثم
جاءت العرب فغلبوا على الشأم) [ج 1 - ص 128].
ذاك أمر تلك
السلالات الخرافية واقتسام العالم بحسب الرؤية التوراتية. وما عرضه الطبري تجميع
من التوراة والرواة. وقد تحدثنا عن أمر السلالات المتأثرة باليهود وانتشارها في
الإسلام.. وهي سلالات خرافية لا تمت للعلم بصلة, ولم ينتبه المؤرخون والنسّابون
إلى أن هدف اليهودي عزرا كان جعل بني إسرائيل محور الوجود وجعل كنعان - شعب فلسطين
- الملعون والمنبوذ لأنه قاوم مشروع عزرا الاستعماري. كما لم ينتبهوا إلى كراهيته
للعرب حيث جعل سلالة العرب من أَمة إبراهيم وهي هاجر وكانت جارية عند فرعون, بينما
سلالة بني إسرائيل من السيدة الحرة سارة والتي جعلها الطبري في إحدى رواياته بنت
ملك حران (عن السدي قال انطلق إبراهيم ولوط قبل الشأم فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة
ملك حران وقد طعنت على قومها في دينهم فتزوجها) [ج 1 - ص 148]!
لقد كان هدف عزرا
الحط من شأن العرب وتحطيم كنعان, لكن النسابين وجدوا شرفاً في الانتماء إلى
إبراهيم رأس سلالتهم - كما أخبرهم اليهود - ولو عن طريق جارية!
هجرة إبراهيم وعصر
الآباء:
يورد الطبري رواية
تقول إن إبراهيم ومن معه هاجروا من العراق إلى حران في بلاد الشام, ومن ثم إلى
مصر. ولا تذكر دخولهم إلى فلسطين إلا في العودة. والرواية تلك تختلف عن رواية
التوراة:
(ثم خرج إبراهيم
مهاجراً إلى ربه وخرج معه لوط مهاجراً, وتزوج سارة ابنة عمه فخرج بها معه يلتمس
الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه, حتى نزل حران فمكث بها ما شاء الله أن يمكث,
ثم خرج منها مهاجراً حتى قدم مصر) [ج 1 - ص 148].
ولما خرج من مصر
جاء إلى فلسطين:
(وقد كان إبراهيم
خرج من مصر إلى الشام, وهاب ذلك الملك الذي كان بها وأشفق من شره حتى قدمها, فنزل
السبع من أرض فلسطين وهي برية الشام. ونزل لوط بالمؤتفكة وهي من السبع على مسيرة
يوم وليلة وأقرب من ذلك) [ج 1 - ص 150].
ثم انتقل إلى منطقة
أخرى (فخرج منها حتى نزل بناحية من أرض فلسطين بين الرملة وإيليا).
ويروي خبراً آخر يحدد
فيه مسار إبراهيم من حران إلى مصر عبر الأردن:
(... قال: فهاجر
إبراهيم من بابل إلى الشأم فجاءته سارة فوهبت له نفسها فتزوجها, وخرجت معه وهو
يومئذ ابن سبع وثلاثين سنة, فأتى حران فأقام بها زماناً, ثم أتى الأردن فأقام بها
زماناً, ثم خرج إلى مصر فأقام بها زماناً, ثم رجع إلى الشأم فنزل السبع أرض بين
إيليا وفلسطين. واحتفر بئراً وبنى مسجداً ثم إن بعض أهل البلد آذاه, فتحول من
عندهم فنزل منزلاً بين الرملة وإيليا) [ج 1 - ص 185].
كما يروي معنعناً
عن ابن عباس, أصل العبري والعبرية:
(عن ابن عباس قال:
لما هرب إبراهيم من كوثى وخرج من النار ولسانه يومئذ سرياني, فلما عبر الفرات من
حران غير الله لسانه فقيل عبراني أي حيث عبر الفرات. وبعث نمرود في أثره وقال لا
تدعوا أحداً يتكلم بالسريانية إلا جئتموني به, فلقوا إبراهيم عليه السلام فتكلم
بالعبرانية فتركوه ولم يعرفوا لغته)!
وتأتي قصة إبعاده
لهاجر وابنها إسماعيل, لنتساءل لم هذه المسافة البعيدة جداً وهي مسيرة شهر
تقريباً, إذا نظرنا بالمقاييس الجغرافية للواقع الحقيقي, في الوقت الذي أبعد فيه
لوطاً إلى مسافة ليست بالبعيدة!
لعل في نظرية
جغرافية التوراة الجزيرية, الجواب؛ وهو أن إبراهيم لم يكن في فلسطين وإنما في غرب
الجزيرة نفسها, وهذا يحل إشكالية المسافات البعيدة والمساحات!
ويتحدث الطبري عن
خبر إبعاد لوط إلى الأردن على نهج التوراة دونما انتباه, وكأنما فلسطين كلها حقل
صغير لا يكفي لممتلكات ومواشي اثنين، علماً بأن عزرا كان هدفه إخراج لوط من الدائرة
المقدسة للسلالة الوارثة, التي أرادها لبني إسرائيل عبر إسحق فيعقوب!
(فلما كثر مال
إبراهيم ومواشيه احتاج إلى السعة في المسكن والمرعى, وكان مسكنه ما بين قرية مدين
فيما قيل والحجاز إلى أرض الشأم, وكان ابن أخيه لوط نازلاً معه فقاسم ماله لوطاً
فأعطى لوطاً شطره فيما قيل, وخيره مسكناً يسكنه ومنزلاً ينزله غير المنزل الذي هو
به نازل, فاختار لوط ناحية الأردن فصار إليها, وأقام إبراهيم عليه السلام بمكانه)
[ج 1 - ص 184].
ويرد ضمن تسلسل
الأحداث أن إبراهيم أرسل ابنه إسحق ليتزوج من بنات خاله في حران حتى لا يتزوج من كنعانية
وثنية، ثم نفاجأ بأن إبراهيم يتزوج كنعانية وثنية بعد وفاة زوجته سارة كما يذكر
الطبري في روايته عن ابن إسحق:
(تزوج إبراهيم
بعدها قطورا بنت يقطن امرأة من الكنعانيين) [ج 1 - ص 185].
وقد ولدت له ستة
أنفار منهم يقسان أبو البربر, ومديان أبو مدين!
كما أن إسحق أمر
ابنه ألا يتزوج من كنعانية!
(وإن إسحاق أمر
ابنه يعقوب ألا ينكح امرأة من الكنعانيين, وأمره أن ينكح امرأة من بنات خاله لبان
بن ناهر) [ج 1 - ص 191].
وانتهت حياة
إبراهيم ومات فدفن (عند قبر سارة في مزرعة حبرون) [ج 1 - ص 187].
المفترض أن إبراهيم
- بعد استقراره في فلسطين - سيقوم بدعوة كنعان للرسالة التي يحملها, ولكن ذلك لم
يحدث, حيث لم يرد أي خبر عن دعوة كنعان إلى الإيمان لا في عهد إبراهيم ولا في عهد
سلالته:
(وكانت النبوة
والملك متصلين بالشأم ونواحيها لولد إسرائيل بن إسحاق إلى أن زال ذلك عنهم بالفرس
والروم بعد يحيى بن زكرياء وبعد عيسى بن مريم عليهما السلام) [ج 1 - ص 190].
فالنبوة تعني حمل
رسالة على رأسها الدعوة للإيمان, وليس الأمر متعلقاً بالتمييز بين النبي والرسول
وبأن كل رسول نبي وهو مكلف بالدعوة, بينما ليس كل نبي رسولاً وهو غير مكلف
بالدعوة. فقد عدوا إبراهيم رسولاً وحاول أن يهدي نمرود وناقشه!
والذي يبدو في
التوراة أن التوحيد كان منتشراً في فلسطين, لذلك لم يحتج إبراهيم لدعوة أحد, وهذا
ما يفسر اختياره فلسطين للاستقرار فيها.
وعلى كل تدارك
مؤرخون آخرون هذه النقطة كابن الجوزي, حيث لم يرق لهم ألا يدعو الآباء إلى رسالة,
فجعلوا الأنبياء الآباء رسلاً يدعون للإيمان, وقد تداولوا رواية الضحاك بن مزاحم:
(أن
إسحاق أول مرسل بعد إبراهيم, قال ولم يمت إبراهيم حتى بعث إلى أرض الشام, وبعث
يعقوب بن إسحاق إلى كنعان, وبعث إسماعيل إلى جرهم وبعث إلى سدوم)!
ويتابع الطبري خطى
تسلسل التوراة, فيعقوب يجيء من ديار خاله مع أسباطه الاثني عشر:
(فانصرف يعقوب
بولده هؤلاء وامرأتيه المذكورتين إلى منزل أبيه من فلسطين, على خوف شديد من أخيه
العيص فلم ير منه إلا خيراً) [ج 1 - ص 191].
وأخوه العيص "عيسو" يكثر نسله ويغلب
الكنعانيين ويمتد ملكه:
(وكان العيص فيما
ذكر لحق بعمه إسماعيل فتزوج إليه ابنته بسمة وحملها إلى الشام, فولدت له عدة أولاد
فكثروا حتى غلبوا الكنعانيين بالشأم وصاروا إلى البحر وناحية الإسكندرية ثم إلى
الروم)!!
ويرحل يعقوب إلى
مصر بعد استدعاء يوسف له ثم يموت هناك, فيأتي يوسف به إلى فلسطين ويدفنه ومن ثم
يرجع إلى مصر:
(وأن يعقوب لما
حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف, وكان دخول يعقوب مصر في سبعين إنساناً من أهله. وتقدم
إلى يوسف عند وفاته أن يحمل جسده حتى يدفنه بجنب أبيه إسحاق, ففعل يوسف ذلك به
ومضى به حتى دفنه بالشأم ثم انصرف إلى مصر. وأوصى يوسف أن يحمل جسده حتى يدفن إلى
جنب آبائه, فحمل موسى تابوت جسده عند خروجه من مصر معه) [ج 1 - ص 219].
ويروي عن ابن إسحق
خبراً معنعناً:
(أن الله حين أمر
موسى بالمسير ببني إسرائيل, أمره أن يحتمل يوسف معه حتى يضعه بالأرض المقدسة) [ج 1
- ص 248].
زمن موسى ويوشع:
وتنتهي حلقة الآباء
لتبدأ بعد أربعمئة سنة حلقة جديدة مع النبي موسى بحسب التوراة.
فموسى يخرج من مصر
ببني إسرائيل:
(وخرج موسى في
ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل, لا يعدون ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لكبره,
وإنما عدوا ما بين ذلك سوى الذرية) [ج 1 - ص 246].
ويورد الطبري رواية
توضح هدف الخروج وهو الأرض المقدسة/ فلسطين, فقد وصل موسى مع بني إسرائيل إلى حدود
فلسطين من جهة أريحا لغزوها, ويروي حكاية عاج بن عنق/ عوج:
(ثم أمرهم بالسير
إلى أريحا وهي أرض بيت المقدس فساروا حتى إذا كانوا قريباً منه, بعث موسى اثني عشر
نقيباً من جميع أسباط بني إسرائيل فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبارين. فلقيهم
رجل من الجبارين يقال له عاج فأخذ الاثني عشر فجعلهم في حجزته وعلى رأسه حملة حطب
فانطلق بهم إلى امرأته, فقال انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن
يقاتلونا فطرحهم بين يديها فقال ألا أطحنهم برجلي, فقالت امرأته لا بل خل عنهم حتى
يخبروا قومهم بما رأوا ففعل ذلك. فلما خرج القوم قال بعضهم لبعض يا قوم إنكم إن
أخبرتم بني إسرائيل بخبر القوم ارتدوا عن نبي الله ولكن اكتموهم وأخبروا نبي الله
فيكونان هما يريان رأيهما فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ليكتموه) [ج 1 - ص
253].
ونلاحظ هنا عنصر
الخرافة حيث صور الجبابرة وهم أنفسهم العماليق "سلالة عمليق" بأنهم
عمالقة (كان طول عوج ثمانمائة ذراع)، مما أدى إلى خوف بني إسرائيل من محاربة
الجبارين!
وقد مر معنا
انتقادات بعضهم للخرافات, وللشوكاني نقد جيد في تفسيره؛ يتعلق بخرافة العمالقة
وعوج بن عنق ضمن شرحه للآية 21 من سورة المائدة, حيث قال:
(قلت لم يأت في
أمر هذا الرجل ما يقتضى تطويل الكلام في شأنه. وما هذا بأول كذبة اشتهرت في الناس.
ولسنا بملزومين بدفع الأكاذيب التي وضعها القصاص ونفقت عند من لا يميز بين الصحيح
والسقيم. فكم في بطون دفاتر التفاسير من أكاذيب وبلايا وأقاصيص كلها حديث خرافة,
وما أحق من لا تمييز عنده لفن الرواية ولا معرفة به أن يدع التعرض لتفسير كتاب
الله ويضع هذه الحماقات والأضحوكات في المواضع المناسبة لها من كتب القصاص).
ولكن ذاك النقد
الجيد لا يعني أن الشوكاني يرفض الخرافات, فقد غاص فيها كالآخرين..
ومات موسى قبل أن
يدخل أريحا. ويذكر الطبري عدة روايات تتعارض فيما بينها حول دخول موسى أو يوشع بن
نون. ومن تلك الروايات الرواية المتوافقة مع التوراة:
(فقال بعضهم لم يسر
يوشع إلى أريحا, ولا أمر بالمسير إليها إلا بعد موت موسى وبعد هلاك جميع من كان
أبى المسير إليها مع موسى بن عمران حين أمرهم الله تعالى بقتال من فيها من
الجبارين, وقالوا مات موسى وهارون جميعاً في التيه قبل خروجهما منه) [ج 1 - ص
257].
ويحدثنا عن حكاية
بلعام:
(فلما انتهوا إلى
أرض كنعان وبها بلعم بن باعور المعروف, وكان رجلاً قد آتاه الله علماً وكان فيما
أوتي من العلم اسم الله الأعظم فيما يذكرون الذي إذا دعي الله به أجاب وإذا سئل به
أعطي) (3).
لم يفكر الطبري ولا
المؤرخون في قضية بلعام وقد كان موحداً! فعزرا شوه صورة الموحدين ليبرر سلب الأرض
والاعتداء على الآخرين, وسار في فلكه المؤرخون المسلمون, والقارئ لحكايته في
التوراة يكتشف بيسر الهدف منها!!
ويروي عدة روايات
عن دخول يوشع إلى أريحا, وانتصاره على الجبارين ومن جملة رواياته رواية التوراة
الهزلية عن إسقاط أسوار المدينة بالصيحة.
ويتابع مقتفياً
آثار التوراة فهو يدور في فلكها حيث اقتحم يوشع المدينة وغيرها وانتصروا على
الجبارين.
وكعادته لم يحقق
بما ينقله فهذا منهجه كما يقول, وكأنما اعترافه يعفيه من المسؤولية!
إن علم الآثار
الحديث ينفي دخول بني إسرائيل إلى فلسطين, وقضية يوشع بكاملها كاذبة, ومشكلة
الطبري هي نفسها مشكلة المؤرخين القدماء كلهم والكثير من المؤرخين العرب المعاصرين
الذين خلطوا بين التاريخ الديني والتاريخ الحقيقي على أرض فلسطين والشام والعراق
ومصر!
وبعد مجازر القتل
والاستباحة تصير أرض كنعان للإسرائيليين, لأن أهل كنعان بمفهوم المؤرخين وثنيون
كفرة, بينما الأسباط الإسرائيلية موحدون. وبالتالي الحرب هي حرب مؤمنين ضد
الكفار!!
(وحارب بنو يهوذا
سائر الكنعانيين واستولوا على أرضهم) [ج 1 - ص 261].
ومن تبقى من
الكنعانيين ذهبوا إلى إفريقية, فالطبري يذكر رواية لابن الكلبي:
(وزعم هشام بن محمد
الكلبي أن بقية بقيت من الكنعانيين بعد ما قتل يوشع من قتل منهم, وأن إفريقيس بن
قيس بن صيفي بن سبأ بن كعب بن زيد بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان, مر
بهم متوجهاً إلى إفريقية فاحتملهم من سواحل الشام حتى أتى بهم إفريقية فافتتحها,
وقتل ملكها جراجيرا وأسكنها البقية التي كانت بقيت من الكنعانيين الذين كان
احتملهم معه من سواحل الشام. قال فهم البرابرة قال وإنما سموا بربراً لأن إفريقيس
قال لهم ما أكثر بربرتكم) [ج 1 - ص 261].
وطبعاً ذاك رأي من
الآراء حيث نكتشف فيما بعد صراع أسباط بني إسرائيل مع الفلسطينيين كما ورد في عهد
القضاة, والفلسطينيون هم كنعانيون كما مر معنا:
(ثم ملكهم بنو عمون
وهم قوم من أهل فلسطين ثماني عشرة سنة, ثم قام بأمرهم رجل منهم يقال له يفتح ست
سنين, ثم دبرهم من بعده يجشون وهو رجل من بني إسرائيل سبع سنين, ثم دبرهم بعده
ألون عشر سنين, ثم من بعده كيرون ويسميه بعضهم عكرون ثماني سنين. ثم قهرهم أهل
فلسطين وملوكهم أربعين سنة) [ج 1 - ص 275].
وهكذا ساهم الطبري
والمؤرخون القدماء بحذف شعب فلسطين من الوجود لصالح الإسرائيليين، نتيجة الرؤية
الدينية الضيقة التي حصرتهم فيها التوراة!
فلم يكن بنو كنعان
أو الفلسطينيون سوى محاربين كفار ومعادين لبني إسرائيل الأسباط البررة, وهم أداة
لمعاقبة بني إسرائيل عندما يرمون الدين خلف ظهورهم, وبمعنى أدق كانوا أداة التخويف
والترعيب والترهيب!!
هكذا اختزل تاريخ
شعب بكامله وحضارته وعبر قرون, لتلك المهمة!
من المملكة إلى
السبي:
ويستمر الطبري بسرد
التاريخ الديني فيتحدث عن مملكة داود المزيفة, ومن ثم سليمان, ومن بعده انشقاق
المملكة والصراعات والغزو الخارجي, ويصل إلى الحديث عن تهديم بختنصر لبيت المقدس
"هيكل سليمان" والسبي, فيقول:
(ثم ملك أمرهم من بعده يوياحين بن يوياقيم فغزاه
بختنصر فأسره وأشخصه إلى بابل بعد ثلاثة أشهر من ملكه, وملك مكانه متنيا عمه وسماه
صديقيا, فخالفه فغزاه فظفر به فأوثقه وحمله إلى بابل بعد أن ذبح ولده بين يديه
وسمل عينيه وخرب المدينة والهيكل, وسبى بني إسرائيل وحملهم إلى بابل. فمكثوا بها
إلى أن ردهم إلى بيت المقدس كيرش بن جاماسب بن أسب من أجل القرابة التي كان بينه
وبينهم وذلك أن أمه أشتر ابنة جاويل وقيل حاويل الإسرائيلي) [ج 1 - ص 315].
ويذكر في إحدى
رواياته عن السبي, عدة شعوب سبيت:
(وسبى – بختنصر -
أهل مصر ثم سار في أرض المغرب حتى بلغ أقصى تلك الناحية ثم انطلق بسبي كثير من أهل
فلسطين والأردن فيهم دانيال وغيره من الأنبياء) [ج 1 - ص 316].
ويتابع:
(قال - هشام بن
محمد - وفي ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل ونزل بعضهم أرض الحجاز بيثرب ووادي القرى
وغيرها) [ج 1 - ص 317].
ثم يتحدث عن مجيء
الإسرائيليين من السبي البابلي إلى فلسطين:
(وأقام بنو إسرائيل
ببيت المقدس ورد إليهم أمرهم, وكثروا بها حتى غلبت عليهم الروم في زمان ملوك
الطوائف فلم يكن لهم بعد ذلك جماعة).
ويورد خبراً خلال
حديثه عن سبي بختنصر للعرب, وعودتهم من السبي بأنهم وأنبياء بني إسرائيل عادوا إلى
مكة, ولا يذكر الراوي سوى أنه رأي لأهل العلم بأخبار الماضين. والخبر المروي عن
هشام بن محمد عن عودة قسم من السبي الإسرائيلي إلى الحجاز بيثرب ووادي القرى
وغيرها يتقاطع مع هذا الرأي:
(فرجع بختنصر إلى
بابل بما جمع من سبايا عربة فألقاهم بالأنبار فقيل أنبار العرب وبذلك سميت
الأنبار, وخالطهم بعد ذلك النبط. فلما رجع بختنصر مات عدنان وبقيت بلاد العرب
خراباً حياة بختنصر. فلما مات بختنصر خرج معد بن عدنان معه الأنبياء أنبياء بني
إسرائيل صلوات الله عليهم حتى أتى مكة فأقام أعلامها فحج وحج الأنبياء معه) [ج 1 -
ص 327].
وهذه الرواية غريبة
بين الروايات التي تعتمد على العهد القديم في أخبارها, ولكنها تدعم رأي من يرى أن
أحداث التوراة كانت في جزيرة العرب بما في ذلك السبي والرجوع منه.
وهناك خبر آخر يرى
أن السبي نتيجة قتل اليهود للأنبياء وآخرهم يحيى, مما يعني أن السبي زمن المسيح.
ومع أن الطبري يرفضه ولكنه يورده:
(قال أبو جعفر وهذا
القول الذي روي عمن ذكرت في هذه الأخبار التي رويت وعمن لم يذكر في هذا الكتاب من
أن بختنصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكرياء عند أهل السير
والأخبار والعلم بأمور الماضين في الجاهلية, وعند غيرهم من أهل الملل غلط. وذلك
أنهم بأجمعهم مجمعون على أن بختنصر إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم نبيهم أشعيا في
عهد إرميا بن حلقيا, وبين عهد إرميا وتخريب بختنصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن
زكرياء أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة في قول اليهود والنصارى. ويذكرون أن ذلك
عندهم في كتبهم وأسفارهم مبين, وذلك أنهم يعدون من لدن تخريب بختنصر بيت المقدس
إلى حين عمرانها في عهد كيرش بن أخشويرش أصبهبذ بابل من قبل أردشير بهمن بن
إسفنديار بن بشتاسب, ثم من قبل ابنته خماني سبعين سنة, ثم من بعد عمرانها إلى ظهور
الإسكندر عليها وحيازة مملكتها إلى مملكته ثمانياً وثمانين سنة, ثم من بعد مملكة
الإسكندر لها إلى مولد يحيى بن زكرياء ثلاثمائة سنة وثلاث سنين, فذلك على قولهم
أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة. وأما المجوس فإنها توافق النصارى واليهود في مدة
خراب بيت المقدس وأمر بختنصر وما كان من أمره وأمر بني إسرائيل إلى غلبة الإسكندر
على بيت المقدس والشام وهلاك دارا, وتخالفهم في مدة ما بين ملك الإسكندر ومولد
يحيى؛ فتزعم أن مدة ذلك إحدى وخمسون سنة فبين المجوس والنصارى من الاختلاف في مدة
ما بين ملك الإسكندر ومولد يحيى وعيسى ما ذكرت) [ج 1 - ص 347].
ورأي المجوس يجعل
المسيح في عهد الإسكندر المقدوني. وهنا لا بد من الإشارة إلى الرأي القائل بأن
المسيح عاش في القرن الثالث قبل الميلاد المتعارف عليه كما تذكر رواية المجوس,
وكما يمكن أن يفهم من لفائف البحر الميت (مغاور قمران) (4).
لم نتعرض لكل
القضايا عند الطبري التي تمس فلسطين وشعبها, تاركين لغيره من المؤرخين ذكرها, ولكن
نسأل:
أين الشعب
الفلسطيني وتاريخه وحضارته, وأين بلاد الشام والعراق ومصر وحضارتهم؟!
إن اختزال تاريخ
فلسطين وشعبها وحضارتها وبلاد الشام, وتقزيمه إلى تاريخ كاذب عن أسباط بني إسرائيل
من خلال إيمانهم وكفرهم وصراعاتهم السخيفة، هو أمر يدعو للألم!
وما أسسه الطبري
كان القاعدة التي دار المؤرخون من بعده في فلكها، وكيف لا وهو شيخ المؤرخين!
* *
*
ابن الأثير
الجزري الملقب بعز الدين أبو الحسن علي بن محمد "توفي
630 هـ"
"الكامل في
التاريخ"
يتحدث ابن
الأثير في مقدمة كتابه عن منهجه, فيقول:
(جمعت في كتابي
هذا ما لم يجتمع في كتاب واحد ومن تأمله علم صحة ذلك, فابتدأت بالتاريخ الكبير
الذي صنفه الإمام أبو جعفر الطبري إذ هو الكتاب المعول عند الكافة عليه والمرجوع
عند الاختلاف إليه, فأخذت ما فيه من جميع تراجمه لم أخل بترجمة...)... (على أني لم
أنقل إلا من التواريخ المذكورة والكتب المشهورة ممن يعلم بصدقهم فيما نقلوه وصحة
ما دونوه...) [ج 1 – ص 6 , 7].
إذاً هو على درب
الطبري على أنه ينتقي ما يراه الأكمل, كما أنه ينقل عن التوراة وغيرها, ولا يبالي
بما ينقل من تناقضات وتعارضات أو خرافات, لأنه وضع نفسه موضع الجامع للأخبار وليس
موضع المؤرخ!
فهو مثلاً عندما
يتحدث عن دفن آدم يورد رأيين, ومنهما الرأي المنسوب إلى ابن عباس:
(قال ابن عباس
لما خرج نوح من السفينة دفن آدم ببيت المقدس) [ج 1 - ص 45].
ولو تساءلنا عن
صحة الخبر ودقته جاءنا جوابه: (والعهدة عليهم وإنما نحن نقلنا ما قالوه), وهذا
اعتراف صريح بأنه وغيره ليسوا بمؤرخين, إنما جامعو أخبار!!
خرافة السلالات
البشرية:
يذكر كنعان على
أنه غرق وقت الطوفان:
(وقيل إن اسم
ولده الذي أغرق كان كنعان وهو يام) [ج 1 - ص 58].
ويربط السلالات
بخرافة أولاد نوح الثلاثة سام وحام ويافث, بالاعتماد على التوراة ورواية وهب بن
منبه الشهيرة, كما يذكر قضية حام ورؤيته لعورة أبيه:
(وقال وهب بن
منبه: إن سام بن نوح أبو العرب وفارس والروم, وإن حام أبو السودان, وإن يافث أبو
الترك ويأجوج ومأجوج. وقيل إن القبط من ولد قوط بن حام. وإنما كان السودان في نسل
حام لأن نوحاً نام فانكشفت سوءته فرآها حام فلم يغطها ورآها سام ويافث فألقيا عليه
ثوباً, فلما استيقظ علم ما صنع حام وإخوته فدعا عليه) [ج 1 - ص 61].
ويذكر أصل كنعان
المزدوج وهو ما وقع فيه الطبري والآخرون؛ فقد عدّ الكنعانيين من نسل الملعونين أي
ذرية حام, لكنه يسرد رواية أخرى بأنهم من نسل سام:
(فمن ولد لاوذ
بن سام فارس وجرجان وطسم وعمليق وهو أبو العماليق؛ ومنهم كانت الجبابرة بالشام
الذين يقال لهم الكنعانيون, والفراعنة بمصر وكان أهل البحرين وعمان منهم ويسمون
جاشم...).
وعدّ أولئك
عرباً كما قال الطبري:
(فكانت طسم
والعماليق وأميم وجاشم قوماً عرباً لسانهم عربي) [ج 1 - ص 61].
وهذا ما يؤكد
عروبة سكان المنطقة، وهي نقطة مهمة كان يجب أن ينميها المؤرخون المعاصرون!
كما يذكر ثلاث
روايات لنسبة نمرود؛ واحدة لسام والثانية لحام والثالثة لكنعان:
(وولد لأرفخشذ
بن سام..).. (ولد لأرفخشذ أيضاً نمروذ بن كوش بن حام بن نوح) [ج 1 - ص 62].
(وأما حام فولد
له كوش ومصرايم وفوط وكنعان, فمن ولد كوش نمروذ بن كوش, وقيل هو من ولد سام) [ج 1
- ص 63].
ونمرود ابن
كنعان:
(نمروذ بن
كنعان) [ج 1 - ص 89].
كما يذكر فيما
بعد عندما يتحدث عن ملك مصر في زمن يوسف, أن مصرايم والعمالقة هم من سلالة سام:
(ثم إن الملك
وهو الريان بن الوليد بن الهروان بن إراشة بن قاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن
سام بن نوح) [ج 1 - ص 110].
وهذا التخبط
يعني أن السلالات كلها مجرد خرافات, أصلها السلالات التوراتية التي تم تعديلها,
وتبناها المؤرخون عن القصاصين والنسابين على أنها حقائق!
ثم يتحدث ابن
الأثير عن توزع بقية أولاد حام, وتهمنا هنا سلالة كنعان, فهو يكرر أن الشام كانت
لكنعان ثم انتقلت إلى بني إسرائيل - استناداً للتوراة - ومن ثم إلى الروم فالعرب:
(وصارت بقية ولد
حام بالسواحل من النوبة والحبشة والزنج, ويقال إن مصرايم ولد القبط والبربر. وأما
فوط فقيل إنه سار إلى الهند والسند فنزلها وأهلها من ولده. وأما الكنعانيون فلحق
بعضهم بالشام ثم جاءت بنو إسرائيل فقتلوهم بها ونفوهم عنها وصار الشام لبني
إسرائيل, ثم وثبت الروم على بني إسرائيل فأجلوهم عن الشام إلى العراق إلا قليلاً منهم,
ثم جاءت العرب فغلبوا على الشام) [ج 1 - ص 63].
وهكذا يختزل
تاريخ البشرية الوجودي والحضاري إلى مجرد أسماء تحت عباءة التوراة الخرافية التي
ثبتها أولئك في كتبهم, فصارت تراثاً عربياً إسلامياً!!
هجرة إبراهيم:
يتحدث ابن
الأثير عن هجرة إبراهيم من العراق إلى مصر مباشرة:
(ثم إن إبراهيم
والذين اتبعوا أمره أجمعوا على فراق قومهم فخرج مهاجراً حتى قدم مصر) [ج 1 - ص
77].
ثم يتابع عن
مجيئه إلى فلسطين مع زوجته معللاً:
(فكان إبراهيم
قد خرج بها إلى الشام من مصر خوفاً من فرعون, فنزل السبع من أرض فلسطين. ونزل لوط
بالمؤتفكة وهي من السبع مسيرة يوم وليلة) [ج 1 - ص 79].
ولا ينسى الحديث
عن تعرب إسماعيل:
(حتى شب إسماعيل
وماتت هاجر, فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم فتعلم العربية منهم هو وأولاده, فهم
العرب المتعربة) [ج 1 - ص 80].
ويذكر وفاة سارة
ودفنها في فلسطين (بقرية الجبابرة من أرض كنعان), وتزوج إبراهيم من الكنعانيين:
(فلما ماتت سارة
تزوج بعدها قطورا ابنة يقطن امرأة من الكنعانيين) [ج 1 - ص 94].
من زمن موسى
وحتى السبي:
وإذا ما انتقلنا
إلى زمن موسى, نجد أنه سار إلى فلسطين كما تقول التوراة:
(أوحى الله إليه
يأمره بالمسير ببني إسرائيل وأن يحمل معه تابوت يوسف بن يعقوب ويدفنه بالأرض
المقدسة) [ج 1 - ص 143].
ويجعل مجيء موسى
إلى فلسطين أمراً إلهياً:
(ثم إن الله
تعالى أمر موسى عليه السلام أن يسير ببني إسرائيل إلى أريحاء بلد الجبارين وهي أرض
ببيت المقدس) [ج 1 - ص 149].
ويكرر حكاية
الجبارين وعلى رأسهم العملاق عوج بن عناق الخرافية!
ويروي عدة
روايات عمن دخل أريحا, من بينها خبر دخول يوشع أريحا بعد حصارها وسقوط السور
بالصيحة, ثم سيطرته على الشام وهو مختصر للرواية التوراتية, ونقلاً عما أورده
الطبري:
(وقيل بل حصرها
ستة أشهر فلما كان السابع تقدموا إلى المدينة وصاحوا صيحة واحدة فسقط السور,
فدخلوها وهزموا الجبارين وقتلوا فيهم فأكثروا. ثم اجتمع جماعة من ملوك الشام
وقصدوا يوشع فقاتلهم وهزمهم وهرب الملوك إلى غار فأمر بهم يوشع بن نون فقتلوا
وصلبوا, ثم ملك الشام جميعه فصار لبني إسرائيل).
ومن تبقى من
الجبارين ساروا إلى شمال إفريقية ليكونوا هم البربر:
(وأما من بقي من
الجبارين فإن إفريقش بن قيس بن صيفي بن سبأ بن كعب بن زيد بن حمير بن سبأ بن يشحب
بن يعرب بن قحطان مر بهم متوجهاً إلى إفريقية, فاحتملهم من سواحل الشام فقدم بهم
إفريقية فافتتحها وقتل ملكها جرجير وأسكنهم إياها فهم البرابرة) [ج 1 - ص 155].
فالجبابرة مات
معظمهم على يد الإسرائيليين, ومن تبقى منهم انتهى به المطاف ليصير شعباً آخر اسمه
البربر! كما أن بلاد الشام صارت كلها للإسرائيليين! ورغم إفناء الكنعانيين وتهجير
من بقي حياًَ, يعود ابن الأثير ليذكر فيما بعد الكنعانيين والفلسطينيين وقتالهم ضد
الإسرائيليين، ولا سيما زمن جالوت الذي قتله داود بالحجارة كما في أسطورة الملوك
التوراتية [ج 1 – ص 166 , 167]!
وينتقد خرافات
نسبت إلى بلقيس فيستنكرها ويقول بعد ذكرها معلقاً:
(وقد تواطؤا على
الكذب والتلاعب بعقول الجهال واستهانوا بما يلحقهم من استجهال العقلاء لهم) [ج 1 -
ص 178].
لماذا نقرأ
أحياناً عند مؤرخينا ما يشعرنا بوجود عقل ناقد, ولكنه يضيع فيما بعد في بحر من
الأكاذيب والخرافات. فابن الأثير على الرغم من استنكاره ذاك, يتقبل خرافات لا حصر
لها!
هذه مشكلة
التراث التاريخي والمؤرخين: تناقض, ازدواجية, انفصال, انفصام.. فهم لا ينتبهون إلى
قضية تغييب شعب كامل وحضارات العرب في بلاد الشام كلها ومصر والعراق لصالح توراة
سقيمة مليئة بالخرافات ألفها عزرا لغاية استعمارية في نفسه. بل يقومون بسرد خرافات
لا حصر لها, وفجأة يقفون عند خبر فيه شيء ما ولكنه لا يصل إلى مستوى خرافات قبلوا
بها, فيسقطون غضبهم عليه وكأنهم علماء موضوعيون وعقلانيون!
ولنتابع مع
مؤرخنا الذي ينقل عن غيره خبر بختنصر والسبي, فهو لا يأتي على ذكر كنعان مطلقاً,
وكأنه لا وجود له ولا لسكان الشام من العرب وهو ما صنعه معظم المؤرخين القدماء!
(ودخل بختنصر
وجنوده بيت المقدس فوطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس, وأمر
جنوده فحملوا التراب وألقوه فيه حتى ملأوه, ثم انصرف راجعاً إلى بابل, وأخذ معه
سبابا بني إسرائيل, وأمرهم فجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم فاجتمعوا واختار منهم
مائة ألف صبي فقسمهم على الملوك والقواد الذين كانوا معه. وكان من أولئك الغلمان
دانيال النبي وحنانيا وعزاريا وميشائيل. وقسم بني إسرائيل ثلاث فرق فقتل ثلثاً
وأقر بالشام ثلثاً وسبى ثلثاً) [ج 1 - ص 202].
ثم يتحدث فيما
بعد عن مجيء الإسرائيليين من بابل إلى بيت المقدس, وحكاية عزير - عزرا - وكتابته
للتوراة المفقودة, ثم بقائهم حتى انتهائهم على يد الرومان:
(ولم يزل بنو
إسرائيل ببيت المقدس وعادوا وكثروا, حتى غلبت عليهم الروم زمن ملوك الطوائف فلم
يكن لهم بعد ذلك جماعة) [ج 1 - ص 206].
وعندما ينتقل
إلى زمن المسيحية يتحدث عن قسطنطين بأنه هو من طرد بقايا بني إسرائيل من فلسطين:
(وكان الذي
أنشأها قسطنطين الملك وهو أول من تنصر من ملوك الروم وأجلى من بقي من بني إسرائيل
عن فلسطين والشام, لقتلهم عيسى بزعمهم) [ج 1 - ص 226].
وهو يورد أيضاً
رواية السدي التي تذكر سبي بختنصر لبني إسرائيل عقب قتل يحيى بن زكريا [ج 1 - ص
231]، إلا أنه يرفض هذه الرواية:
(وهذا القول وما
لم نذكره من الروايات من أن بختنصر هو الذي خرب بيت المقدس وقتل بني إسرائيل عند
قتلهم يحيى بن زكريا باطل عند أهل السير والتاريخ وأهل العلم بأمور الماضين, وذلك
أنهم أجمعون مجمعون على أن بختنصر غزا بني إسرائيل عند قتلهم نبيهم أشعيا في عهد
أرميا بن حلقيا, وبين عهد أرميا وقتل يحيى أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة عند
اليهود والنصارى, ويذكرون أن ذلك في كتبهم وأسفارهم مبين. وتوافقهم المجوس في مدة
غزو بختنصر بني إسرائيل إلى موت الإسكندر وتخالفهم في مدة ما بين موت الإسكندر
ومولد يحيى فيزعمون أن مدة ذلك كانت إحدى وخمسين سنة) [ج 1 - ص 232].
وهذه المدة
الإحدى والخمسون سنة بين موت الإسكندر ومولد يحيى بحسب رأي المجوس الذين ذكرهم,
تنسحب على ولادة المسيح, فابن الأثير يذكر رواية المجوس – كما يسميها – عن مولد
المسيح فيقول:
(قالت
المجوس: كان ذلك بعد خمس وستين من سنة غَلَبَةِ الإِسكندر على أرض بابل) [ج 1 - ص 236].
وابن الأثير
الذي رفض تلك الرواية من الناحية الزمنية, يعود ليقبل رواية ابن إسحق الذي يجعل
نبوزاذان (نبوزرادان) في زمن المسيح!
(وأما ابن إسحاق
فإنه قال الحق أن بني إسرائيل عمروا بيت المقدس بعد مرجعهم من بابل وكثروا ثم
عادوا يحدثون الأحداث ويعود الله سبحانه وتعالى عليهم ويبعث فيهم الرسل؛ ففريقاً
يكذبون وفريقاً يقتلون حتى كان آخر من بعث الله فيهم زكريا وابنه يحيى وعيسى بن
مريم عليهم السلام, فقتلوا يحيى وزكريا فابتعث الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال
له جودرس فسار إليهم حتى دخل عليهم الشام فلما دخل بيت المقدس قال لقائد عظيم من
عسكره اسمه نبوزاذان وهو صاحب الفيل: إني كنت قد حلفت لئن أنا ظفرت ببني إسرائيل
لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري إلا أن لا أجد من أقتله وأمره أن يدخل
المدينة ويقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم. فدخل نبوزاذان المدينة فأقام في المدينة التي
يقربون فيها قربانهم.. )..
ويتابع سرد
الحكاية إلى أن يقول معلقاً:
(وكانت الوقعة
الأولى بختنصر وجنوده ثم رد الله سبحانه لهم الكرة, ثم كانت الوقعة الأخيرة جودرس
وجنوده وكانت أعظم الوقعتين فيها كان خراب بلادهم وقتل رجالهم وسبي ذراريهم
ونسائهم) [ج 1 - ص 233 , 234].
ونبوزاذان هو في أسفار العهد القديم نبوزرادان، وهذا يعني رفض
الرواية زمنياً, وقبول رواية أخرى في الزمن نفسه تجعل السبي عقب مقتل يحيى بن
زكريا وهو يعود إلى أكثر من خمسة قرون, وهذا يختلف عما يتحدث عنه المؤرخون
المؤمنون بصحة الأسفار!
وقد جاء في سفر إرميا [52/ 12 - 16]: (قدم نبوزرادان رئيس الشرط الواقف أمام ملك
بابل إلى أورشليم. وأحرق بيت الرب وبيت الملك وجميع بيوت أورشليم وكل بيت للعظماء أحرقه
بالنار. وهدم جميع جيش
الكلدانيين الذين مع رئيس الشرط، كل أسوار أورشليم مما حولها. وبعضاً من مساكين الأرض وسائر الشعب الذين
بقوا في المدينة والهاربين الذين هربوا إلى ملك بابل وسائر الجماعة أجلاهم
نبوزرادان رئيس الشرط. وترك رئيس الشرط من مساكين الأرض كرامين وفلاحين)... ومن ثم: (جلي يهوذا من أرضهم). [ملوك 2 - 25/ 21]. ومن بقي منهم هرب إلى مصر.
إننا نؤمن يقيناً
لا شك فيه أن الروايات كلها كاذبة ومختلقة, فالزمن ضائع في ميوعة تناوله, والمكان
الذي جعلوه في فلسطين لا أساس له من الصحة. ومشكلتنا مع المؤرخ العربي المسلم
المدون للمعلومات من الرواة والقصاصين الكذبة, أنه ثبت تلك المعلومات في التراث
الإسلامي, دون بحث ودراسة وتقص للحقائق!!
* *
*
ابن كثير:
إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي أبو الفداء "توفي
774 هـ"
"البداية والنهاية"
ابن كثير في
تأريخه القديم, يدعي بأنه لن يأخذ من الإسرائيليات إلا بالحدود التي سمح بها
الشرع:
(ولسنا نذكر من
الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله مما لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم, وهو القسم الذي لا يصدق ولا يكذب مما فيه بسط لمختصر عندنا, أو
تسمية لمبهم ورد به شرعنا مما لا فائدة في تعيينه لنا فنذكره على سبيل التحلي به,
لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه. وإنما الاعتماد والاستناد على كتاب
الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صح نقله أو حسن وما كان فيه ضعف
نبينه)... (وقد قص الله على نبيه صلى الله عليه وسلم خبر ما مضى من خلق المخلوقات
وذكر الأمم الماضين وكيف فعل بأوليائه وماذا أحل بأعدائه وبين ذلك رسول الله صلى
الله عليه وسلم لأمته بياناً شافياً, سنورد عند كل فصل ما وصل إلينا عنه صلوات
الله وسلامه عليه من ذلك تلو الآيات الواردات في ذلك, فأخبرنا بما نحتاج إليه من
ذلك وترك ما لا فائدة فيه مما قد يتزاحم على علمه ويتراجم في فهمه طوائف من علماء
أهل الكتاب مما لا فائدة فيه لكثير من الناس إليه. وقد يستوعب نقله طائفة من
علمائنا ولسنا نحذو حذوهم ولا ننحو نحوهم ولا نذكر منها إلا القليل على سبيل
الاختصار ونبين ما فيه حق مما وافق ما عندنا وما خالفه فوقع فيه الإنكار) [ج1 – ص6].
ضمن ذاك المنهج,
كتب ابن كثير تاريخ الكون والبشرية منذ التكوين والخليقة وحتى عصره.. وهذا يعني
السرد الروائي المستند إلى الدين, وبمعنى آخر هو تاريخ ديني. وقضية انتقائيته لا
معنى لها لأنها مزاجية ولا تخضع لمنهج, فقد أورد خرافات كثيرة تناقض منهجه, في
الوقت الذي يقف فيه بصلابة تجاه أمور عادية لا قيمة لها؛ كنقده لما قيل عن الحياة
في سفينة نوح خلال فترة الطوفان:
(وأما ما يذكره
كثير من الجهلة أنهم أكلوا من فضول أزوادهم ومن حبوب كانت معهم قد استصحبوها,
واطحنوا الحبوب يومئذ واكتحلوا بالإثمد لتقوية أبصارهم لما انهارت من الضياء بعد
ما كانوا في ظلمة السفينة, فكل هذا لا يصح فيه شيء وإنما يذكر فيه آثار منقطعة عن
بني إسرائيل لا يعتمد عليها ولا يقتدى بها والله أعلم) [ج1 – ص 117].
لقد سمح لنفسه
بالأخذ عن أهل الكتاب مما "لا يصدق ولا يكذب" مع ادعاء التحفظ, وكذلك
"مما لا فائدة فيه لكثير من الناس إليه", بل قال إنه لن يحذو حذو
المؤرخين في الأخذ إلا باختصار ومع التعليق عليه سلباً أو إيجاباً!
ذاك الكلام
الفضفاض مفتوح على كل الاحتمالات حيث يمكن أخذ كل شيء دون أي تحفظ, وبالتالي تبرر
الذريعة المناسبة!
وقد اعترف في
أكثر من موقع بالانفتاح التام؛ نذكر من ذلك ما ذكره في قصة موسى:
(وسنورد سيرته
ههنا من ابتدائها إلى آخرها من الكتاب والسنة, وما ورد في الآثار المنقولة من
الإسرائيليات التي ذكرها السلف وغيرهم) [ج1 –
ص 237]!
ذاك الانفتاح
ينسف بكل يسر ما ادعاه في منهجه؛ وكأمثلة نذكر نقله لإحدى روايات الطبري عن دفن
آدم في بيت المقدس:
(واختلفوا في
موضع دفنه فالمشهور أنه دفن عند الجبل الذي أهبط منه في الهند, وقيل بجبل أبي قبيس
بمكة, ويقال إن نوحاً عليه السلام لما كان زمن الطوفان حمله هو وحواء في تابوت
فدفنهما ببيت المقدس. حكى ذلك ابن جرير وروى ابن عساكر عن بعضهم أنه قال رأسه عند
مسجد إبراهيم ورجلاه عند صخرة بيت المقدس) [ج1 –
ص 98].
كما ذكر خرافة
الحمار وإبليس في السفينة:
(وآخر ما دخل من
الحيوانات الحمار ودخل إبليس متعلقا بذنب الحمار).. [ج1 – ص 111].
وخرافة خلق
الخنزير والسنور:
(فلما كثر أرواث
الدواب أوحى الله عز وجل إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل, فغمزه فوقع منه
خنزير وخنزيرة. فأقبلا على الروث. ولما وقع الفار بخرز السفينة بقرضه, أوحى الله
عز وجل إلى نوح عليه السلام أن اضرب بين عيني الأسد فخرج من منخره سنور وسنورة,
فأقبلا على الفار) [ج1 – ص 116]!
(ثم شكوا الفارة
فقالوا الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا, فأوحى الله إلى الأسد فعطس فخرجت
الهرة منه فتخبأت الفأرة منها) [ج1 – ص 111].
هل يصدق أحد تلك
الروايات المضحكة؟ فلماذا رواها, وما الفائدة المتوخاة من ذكرها؟!
لقد ربط بين
المفسرين وعلماء التاريخ, بمعنى أنه وحد بين الدين والتاريخ, فما ذكره في تاريخه
نجده في قصص الأنبياء بل ونجده في تفسيره للقرآن.
وهذا التوحد وإن
أبعده عن التاريخ الحقيقي, لكنه لا يعني السماح له بالدخول إلى عالم الأساطير
والخرافات من الأبواب الواسعة!
ويبقى نقده
جزئياً وهامشياً ولكنه يحمل طابعاً متشنجاً لا مبرر له. فهو مثلاً يصر بصلابة على
عمومية الطوفان وهو ما يوافق الرواية التوراتية, ويرفض بعنف أن يكون الطوفان في
بابل فقط, بل ويكفر القائلين به:
(وهذه سفسطة
منهم وكفر فظيع وجعل بليغ ومكابرة للمحسوسات وتكذيب لرب الأرض والسموات, وقد أجمع
أهل الأديان الناقلون عن رسل الرحمن مع ما تواتر عند الناس في سائر الأزمان على
وقوع الطوفان, وأنه عم جميع البلاد, ولم يبق الله أحداً من كفرة العباد استجابة
لدعوة نبيه المؤيد المعصوم وتنفيذاً لما سبق في القدر المحتوم) [ج1 – ص 118]!!
خرافة السلالات
البشرية:
روى ابن كثير أن
كنعان ابن رابع لنوح, وأغرقه في الطوفان:
(وأما امرأة نوح
وهي أم أولاده كلهم وهم: حام وسام ويافث ويام, وتسميه أهل الكتاب كعنان, وهو الذي
قد غرق وعابر) [ج1 – ص 112].
فيام هو كنعان
وكما ذكر ابن الأثير, وهو الولد الرابع لنوح!
وكنعان ذاك الذي
غرق في الطوفان كان كافراً وغير صالح:
(وهذا الابن هو
يام أخو سام وحام ويافث, وقيل اسمه كنعان, وكان كافراً عمل عملاً غير صالح فخالف
أباه في دينه ومذهبه فهلك مع من هلك) [ج1 –
ص 113].
وروى أيضاً أن
نوحاً ولد ساماً وحاماً ويافث بعد الطوفان, بينما كنعان غرق, أما عابر فقد مات قبل
الطوفان:
(وقد قيل إن
نوحاً عليه السلام لم يولد له هؤلاء الثلاثة الأولاد إلا بعد الطوفان, وإنما ولد
له قبل السفينة كنعان الذي غرق, وعابر مات قبل الطوفان) [ج1 – ص 115].
ولكنه يرجح
ولادة الثلاثة قبل الطوفان..
وكغيره يستنسخ
كنعان آخر, ليكون محط اللعنة التوراتية التي صنعها عزرا:
(وقد ذكر أن
حاماً واقع امرأته في السفينة, فدعا عليه نوح أن تشوه خلقة نطفته فولد له ولد أسود
وهو كنعان بن حام جد السودان. وقيل بل رأى أباه نائماً وقد بدت عورته فلم يسترها
وسترها أخواه فلهذا دعا عليه أن تغير نطفته وأن يكون أولاده عبيداً لإخوته) [ج1 – ص 116].
لقد جعل كنعان
كافراً وأغرقه في الطوفان, ثم استنسخه أسود اللون عبداً وابناً لحام؛ حيث أخذت
اللعنة مفعولها الفوري!
ألا تستحق هذه
القضية أن يقف عندها ابن كثير المتشدد, ويسأل نفسه عن حقيقة تلك اللعنة, والعقاب
العنصري اللاحق بالسلالة لوناً وعبودية أبديين؟!
هجرة إبراهيم وعصر
الآباء:
يتحدث عن مجيء
إبراهيم من حران إلى أرض كنعان بلاد بيت المقدس:
(قالوا وانطلق
تارخ بابنه إبراهيم وامرأته سارة وابن أخيه لوط بن هاران فخرج بهم من أرض الكلدانيين
إلى أرض الكنعانيين فنزلوا حران, فمات فيها تارخ وله مائتان وخمسون سنة. وهذا يدل
على أنه لم يولد بحران وإنما مولده بأرض الكلدانيين وهي أرض بابل وما والاها. ثم
ارتحلوا قاصدين أرض الكنعانيين وهي بلاد بيت المقدس) [ج1 – ص 140].
وتنقلُ إبراهيمَ
انتهى إلى استقراره في فلسطين:
(.. إلى بلاد
الشام ثم الديار المصرية, واستقراره في الأرض المقدسة) [ج1 – ص 149].
وينقل عن اليهود
متبنياً رأيهم في منح إبراهيم وسلالته فلسطينَ:
(وذكر أهل
الكتاب أنه لما قدم الشام أوحى الله إليه إني جاعل هذه الأرض لخلفك من بعدك,
فابتنى إبراهيم مذبحاً لله شكراً على هذه النعمة, وضرب قبته شرقي بيت المقدس) [ج1 – ص 150]!!
وهو يؤكد منح
إبراهيم ونسله الأرض المقدسة إلى يوم القيامة, عندما قدم من مصر إلى فلسطين,
مستنداً إلى النص التوراتي:
(وأوحى الله
تعالى إلى إبراهيم الخليل فأمره أن يمد بصره وينظر شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً,
وبشره بأن هذه الأرض كلها سأجعلها لك ولخلفك إلى آخر الدهر, وسأكثر ذريتك حتى
يصيروا بعدد تراب الأرض..) [ج1 – ص 152].
ويربط بين خبر
مقام إبراهيم في بلدة برزة القريبة من دمشق بسورية, وبين انتصاره على تلك الجيوش
التي اعتدت على لوط, وتغلب إبراهيم عليهم وملاحقتهم حتى دمشق. فلما عاد استقبله
ملوك بلاد بيت المقدس مرحبين به:
(ثم رجع مؤيداً
منصوراً إلى بلاده وتلقاه ملوك بلاد بيت المقدس معظمين له مكرمين خاضعين واستقر
ببلاده) [ج1 – ص 153]!
إن استخدام
تعبير (ببلاده) عند ابن كثير وغيره من المؤرخين, خاطئ, فتلك بلاد الكنعانيين
الفلسطينيين كما تقول التوراة, ولم يكن إبراهيم سوى ضيف. هذا إن تجاوزنا أن القضية
كلها غير صحيحة!
وتلك الفقرة
التي قرأها ابن كثير في التوراة عن استقبال ملوك كنعان لإبراهيم, ألم يقرأ معها عن
موقف ملكي صادق الموحد وهو الذي رحب بإبراهيم وشكره كما تقول التوراة؟
نعم قرأها, ولكنه لم يلتفت إليها, بل أصر على أن
البشرية كلها كانت كافرة, إلا إبراهيم ومن معه:
(وكل من كان على وجه الأرض كانوا كفاراً سوى إبراهيم الخليل وامرأته وابن أخيه لوط
عليهم السلام) [ج 1 - ص 140]!
فالتوراة تقول عن ملكي صادق إنه مؤمن, بينما يصر
ابن كثير على أنه كافر!!
ويتابع حديثه عن
إبعاد إسماعيل إلى مكة، ونلاحظ عنده وعند غيره تفسير جبال فاران بجبال مكة أو
أرضها كما ورد في عنوانه:
(ذكر مهاجرة
إبراهيم بابنة إسماعيل وأمه هاجر إلى جبال فاران وهي أرض مكة) [ج1 – ص 154].
وكذلك زواج
إسماعيل من قبيلة جرهم ونسله من العرب المستعربة, وهو أبو العرب الحجازيين!
كما يتحدث عن
إسحق وأنه خلف ولدين توءمين وأن بني إسرائيل ينتسبون إلى يعقوب:
(أولهما سموه
عيصو وهو الذي تسميه العرب العيص وهو والد الروم, والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه
فسموه يعقوب؛ وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل) [ج1 – ص 194].
ويتابع ابن كثير
سرده على درب الطبري وابن عساكر في تاريخه الكبير, ومقتفياً التوراة خطوة إثر
خطوة, ولم يخرج عن دائرة الإسرائيليات, بخرافاتها وأخبارها التي لا قيمة لها!
زمن موسى ويوشع:
لا يأتي بجديد،
إلا أنه يكرر قضية الأرض الممنوحة للإسرائيليين:
(والمقصود أن
موسى عليه السلام لما انفصل من بلاد مصر وواجه بلاد بيت المقدس وجد فيها قوماً من
الجبارين من الحيثانيين والفزاريين والكنعانيين وغيرهم, فأمرهم موسى عليه السلام
بالدخول عليهم ومقاتلتهم وإجلائهم إياهم عن بيت المقدس, فإن الله كتبه لهم ووعدهم
إياه على لسان إبراهيم الخليل أو موسى الكليم الجليل. فأبوا ونكلوا عن الجهاد فسلط
الله عليهم الخوف وألقاهم في التيه يسيرون ويحلون ويرتحلون ويذهبون ويجيئون في مدة
من السنين طويلة هي من العدد أربعون) [ج1 –
ص 277].
وهو يرفض ما
تداوله غيره حول خرافة العمالقة وضخامتهم, فهو بعد أن يذكر عوج:
(عوج بن عنق خرج
من عند الجبارين إلى بني إسرائيل ليهلكهم, وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة
ذراع وثلاثة وثلاثين ذراعاً وثلث ذراع. هكذا ذكره البغوي وغيره..)..
يعلق عليها:
(وكل هذه هذيانات
وخرافات لا حقيقة لها) [ج1 – ص 278].
ويذكر أن
واضعها:
(يروى هذا عن
عوف البكالي ونقله ابن جرير عن ابن عباس وفي إسناده إليه نظر. ثم هو مع هذا كله من
الإسرائيليات, وكل هذه من وضع جهال بني إسرائيل. فإن الأخبار الكذبة قد كثرت عندهم
ولا تميز لهم بين صحتها وباطلها) [ج1 – ص
278].
وليت ابن كثير
التزم بما قاله, فترك ما يشك بأمره, وما لا يستطيع أن يميز صحته من باطله!
ونتابع معه وهو
يروي أن الله غفر لبني إسرائيل عبادة العجل بشرط الدخول إلى الأرض المقدسة!
(فغفر لهم بشرط
أن يدخلوا الأرض المقدسة) [ج1 – ص 288].
ولا تفوته خرافة
إسقاط أسوار أريحا بالأبواق كما وردت في التوراة:
(فكان الذي خرج
بهم من التيه وقصد بهم بيت المقدس هو يوشع بن نون عليه السلام. فذكر أهل الكتاب
وغيرهم من أهل التاريخ أنه قطع بني إسرائيل نهر الأردن وانتهى إلى أريحا, وكانت من
أحصن المدائن سوراً وأعلاها قصوراً وأكثرها أهلاً, فحاصرها ستة أشهر, ثم إنهم
أحاطوا بها يوماً وضربوا بالقرون يعني الأبواق وكبروا تكبيرة رجل واحد فتفسخ سورها
وسقط وجبة واحدة، فدخلوها وأخذوا ما وجدوا فيها من الغنائم وقتلوا اثني عشر ألفاً
من الرجال والنساء. وحاربوا ملوكاً كثيرة ويقال إن يوشع ظهر على أحد وثلاثين ملكاً
من ملوك الشام. وذكروا أنه انتهى محاصرته لها إلى يوم جمعة بعد العصر, فلما غربت
الشمس أو كادت تغرب ويدخل عليهم السبت الذي جعل عليهم وشرع لهم ذلك الزمان قال لها
إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي فحبسها الله عليه حتى تمكن من فتح البلد)
[ج1 – ص 323].
ويتابع انتصارات
يوشع وإفناء شعب كنعان, مغيباً أن الغزاة لم يتمكنوا من فرض سيادتهم على فلسطين,
فهو نفسه يذكر فيما بعد تغلب العمالقة على بني إسرائيل, في زمن القضاة وقبيل مجيء
صموئيل (والذي يسميه ابن كثير "أشمويل" ويفسر معناه: "بالعبرانية
إسماعيل أي سمع الله دعائي"):
(حكى السدي
بإسناده عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة والثعلبي وغيرهم أنه لما غلبت
العمالقة من أرض غزة وعسقلان على بني إسرائيل وقتلوا منهم خلقاً كثيراً وسبوا من
أبنائهم جمعاً كثيراً..) [ج 2 – ص 5].
فكيف يقوم العمالقة
بالقتل والسبي إن كانوا قد انقرضوا؟!
أليس العمالقة
نسل عمليق وهم الكنعانيون الجبابرة كما ذكروا تارة, والفلسطينيون كما ذكروا تارة
أخرى, ألا يعني أنهما تسميتان لمسمى واحد!؟
مقلاع داود:
إن مقلاع داود
الخرافي استهوى جميع المؤرخين وابن كثير يروي عنه كغيره, وهنا الحجر نادى داود
ليأخذه معه, لأن مقتل عدوه جالوت به:
(وكان داود عليه
السلام يرمي بالقذافة وهو المقلاع رمياً عظيماً, فبينا هو سائر مع بني إسرائيل إذ
ناداه حجر أن خذني فإن بي تقتل جالوت. فأخذه ثم حجر آخر كذلك ثم آخر كذلك فأخذ
الثلاثة في مخلاته. فلما تواجه الصفان برز جالوت ودعا إلى نفسه فتقدم إليه داود,
فقال له ارجع فإني أكره قتلك فقال لكني أحب قتلك, وأخذ تلك الأحجار الثلاثة فوضعها
في القذافة ثم أدارها فصارت الثلاثة حجراً واحداً ثم رمى بها جالوت ففلق رأسه وفر
جيشه منهزماً) [ج 2 – ص 8 , 9].
إن ما ترويه
الأسفار من خرافات سواء طريقة سقوط جدار أريحا أو قتل جالوت بالمقلاع يصير عند
المؤرخين القدماء حقيقة تاريخية. ويستفرد بعضهم بالمزايدات على
الأسفار كما عند ابن كثير وحجارته الثلاثة وغيرها!!
ويعدّ ابن كثير
داود خليفة الله على بيت المقدس:
(عبد الله ونبيه
وخليفته في أرض بيت المقدس) [ج 2 – ص 9]!
السبي:
ونطوي صفحة داود
وسليمان والمملكة المزعومة وانشقاقها, لأنه لن نجد جديداً عنده عما ذكره غيره, إلى
أن نصل إلى مجيء نبوخذ نصر (بختنصر), فهو يتحدث عما فعله ببني إسرائيل:
(فقتل منهم
الثلث وسبى الثلث وترك الزمني والشيوخ والعجائز ثم وطئهم بالخيل وهدم بيت المقدس,
وساق الصبيان وأوقف النساء في الأسواق حاسرات. وقتل المقاتلة وخرب الحصون وهدم
المساجد وحرق التوراة).. (ودخل بخت نصر بجنوده بيت المقدس ووطئ الشام كلها وقتل
بني إسرائيل حتى أفناهم. فلما فرغ منها انصرف راجعاً وحمل الأموال التي كانت بها
وساق السبايا, فبلغ معه عدد صبيانهم من أبناء الأحبار والملوك تسعين ألف غلام.
وقذف الكناسات في بيت المقدس وذبح فيه الخنازير..) [ج 2 – ص 38].
وهو هنا كغيره
يصور فلسطين وكأن بني إسرائيل مالكوها مسقطاً شعب فلسطين من الوجود, بل وشعب بلاد
الشام كلها. والصراعات على أرض فلسطين وبلاد الشام كلها تصير صراعات بني إسرائيل
ضد الغزاة من آشورين وبابليين وفرس ويونانيين ورومان.. كنسخة متطابقة تماماً عن
أسفار العهد القديم!
ويتابع ابن كثير
عن امتداد غزو بختنصر:
(قال ابن الكلبي
ومن ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل في البلاد؛ فنزلت طائفة منهم الحجاز وطائفة يثرب
وطائفة وادي القرى, وذهبت شرذمة منهم إلى مصر. فكتب بخت نصر إلى ملكها يطلب منه من
شرد منهم إليه فأبى عليه فركب في جيشه فقاتله وقهره وغلبه وسبى ذراريهم. ثم ركب
إلى بلاد المغرب حتى بلغ أقصى تلك الناحية. قال ثم انصرف بسبي كثير من أرض المغرب
ومصر وأهل بيت المقدس وأرض فلسطين والأردن) [ج 2 – ص 39 , 40].
وهو يرفض رواية
العطاء وحسن البصري التي تذكر أن بختنصر في عهد يحيى بن زكريا, لكنه يرويها بسند
آخر عن ابن عساكر, وقد جرت أحداثها في دمشق وليس ببيت المقدس. والطابع الخرافي
واضح فيها, وهي تختلف عما روته الأدبيات المسيحية:
(وقد روى الحافظ
ابن عساكر في المستقصي في فضائل الأقصى من طريق العباس بن صبح عن مروان عن سعيد بن
عبد العزيز عن قاسم مولى معاوية قال: كان ملك هذه المدينة يعني دمشق هداد بن هداد,
وكان قد زوج ابنه بابنة أخيه.. تحت أخيه أريل ملكة صيدا, وقد كان من جملة أملاكها
سوق الملوك بدمشق وهو الصاغة العتيقة. قال وكان قد حلف بطلاقها ثلاثاً ثم أنه أراد
مراجعتها فاستفتى يحيى بن زكريا فقال لا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك. فحقدت عليه
وسألت من الملك رأس يحيى بن زكريا وذلك بإشارة أمها فأبى عليها ثم أجابها إلى ذلك
وبعث إليه وهو قائم يصلي بمسجد جيرون من أتاه برأسه في صينية, فجعل الرأس يقول له
لا تحل له لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. فأخذت المرأة الطبق فحملته على رأسها
وأتت به أمها وهو يقول كذلك فلما تمثلت بين يدي أمها خسف بها إلى قدميها ثم إلى
حقويها. وجعلت أمها تولول والجواري يصرخن ويلطمن وجوههن ثم خسف بها إلى منكبيها,
فأمرت أمها السياف أن يضرب عنقها لتتسلى برأسها ففعل فلفظت الأرض جثتها عند ذلك.
ووقعوا في الذل والفناء ولم يزل دم يحيى يفور حتى قدم بخت نصر فقتل عليه خمسة
وسبعين ألفاً. قال سعيد بن عبد العزيز وهي دم كل نبي ولم يزل يفور حتى وقف عنده
أرميا عليه السلام فقال أيها الدم أفنيت بني إسرائيل فاسكن بإذن الله فسكن فرفع
السيف وهرب من هرب من أهل دمشق إلى بيت المقدس, فتبعهم إليها فقتل خلقاً كثيراً لا
يحصون كثرة وسبى منهم ثم رجع عنهم) [ج 2 –
ص 55].
ولن نتابع أكثر
مع ابن كثير, فما ذكر يعطي صورة واضحة؛ فهو والآخرون بكتاباتهم عن التاريخ القديم
لم يكونوا مؤرخين!
* *
*
أحمد بن أبي
يعقوب بن جعفر العباسي "توفي 284
هـ"
"تاريخ اليعقوبي"
اليعقوبي أول من
ألف كتاباً في التاريخ العام. وقد سار بتأريخه للقديم في ركاب التوراة. وهو يروي
الأحداث التي يختارها دون الاهتمام بالسند. وقد يذكر أكثر من خبر إن لم يستطع أن
يحسم اختياره, كما في خبر دفن آدم أهو في الحجاز أم ببيت المقدس حيث أورد الخبرين.
وقد يورد أخباراً غريبة دون إشارة إلى مصدرها.
خرافة السلالات
البشرية:
لعل اليعقوبي
أكثر المؤرخين حماسة للتوراة, فهو عندما يذكر حكاية عورة نوح, يذكر أن نوحاً دعا
على كنعان مباشرة وهو مطابق لما ورد في سفر التكوين (الإصحاح 9 - الآية 25): [مَلْعُونٌ
كَنْعَانُ. عَبْدَ الْعَبِيدِ يَكُونُ
لإِخْوَتِهِ].
(وإن نوحاً
يوماً لنائم إذ انكشف ثوبه فرأى حام ابنه سوءته فضحك وخبر أخويه ساماً ويافثاً,
فأخذا ثوباً حتى أتياه به ووجوههما مصروفة عنه فألقيا الثوب عليه. فلما انتبه نوح
من نومه وعلم الخبر دعا على كنعان بن حام, ولم يدع على حام, فمن ولده القبط
والحبشة والهند) [ج 1 – ص 15].
التقط اليعقوبي
أن الدعاء على كنعان وليس على حام, ولكنه لم يتساءل: لماذا لم يدع نوح على حام
نفسه؟!
وعلى أية حال لم
يقف الأمر عند هذه القضية؛ فما جاء بعدها أقسى!
يدخل اليعقوبي خرافة
السلالات التوراتية كغيره:
(وجعل لحام أرض
المغرب والسواحل فولد كوش بن حام وكنعان بن حام النوبة والزنج والحبشة)!
وقد تبنى وجهة
نظر عزرا الحاقدة على كنعان, فزايد على عزرا وحمّل كنعان المزيد من الجرائم, فهو
امتداد لشر سلالة قابيل, يقول:
(وكان كنعان أول
من رجع من ولد نوح إلى عمل بني قابيل, فعمل الملاهي والغناء والمزامير والطبول
والبرابط والصنوج, وأطاع الشيطان في اللعب والباطل)!!
(وكثرت الجبابرة
والعتاة منهم وأفسد ولد كنعان بن حام وأظهروا المعاصي) [ج 1 – ص 18].
(ثم قام عابر بن
شالح - بن أرفخشد بن سام بن نوح - يدعو قومه إلى طاعة الله تعالى ويحذر بني سام بن
نوح أن يختلطوا بولد كنعان بن حام المغير دين آبائه والمرتكب للمعاصي) [ج 1 – ص
19].
فكنعان مجرم
ربيب الكفر والفسوق والشر والباطل وهو تلميذ مطيع للشيطان. وعابر يطلب من سلالته
السامية الابتعاد عن سلالة كنعان حتى لا تفسدهم وتلوثهم!!
هجرة إبراهيم ودفن
يعقوب:
يذكر اليعقوبي
أن إبراهيم خرج من العراق إلى فلسطين مباشرة:
(وأمر الله عز
وجل إبراهيم أن يخرج من بلاد نمرود إلى الشأم الأرض المقدسة, فخرج إبراهيم وامرأته
سارة بنت خاران بن ناحور عمه ولوط ابن خاران مهاجرين, حيث أمرهم الله فنزلوا أرض
فلسطين) [ج 1 – ص 24].
ولا ندري عن
الخبر هنا؛ أهو اختصار ترك فيه تفاصيل رحلة إبراهيم, أم هو معلومة كاملة لا زيادة
عليها!
وقضية الاختصار
عنده فيها إشكالية؛ فهو يتحدث أحياناً عن نقاط هامشية لا قيمة لها ولكنه يغوص في
تفصيلاتها المملة مثل حديثه عن سلالة يعقوب, أو إحصاء موسى لجماعته [ج 1 – ص 38],
كما نجده يسترسل عند الحديث عن عبادة بني إسرائيل أو الحديث عن الأقاليم أو كليلة
ودمنة أو أبقراط وعلماء اليونان وفلاسفتها... فهل ما ورد اختصاراً هو في الحقيقة
اختصار, أو هو ما يريد تثبيته كمعلومات تامة لا زيادة عليها!
ونطوي المحطات
لنصل إلى دفن يعقوب في فلسطين:
(ولما توفي
يعقوب قاموا يبكون عليه سبعين يوماً, ثم حمله يوسف وأخرج معه غلماناً من أهل مصر
وسار به إلى أرض فلسطين, فدفنه إلى جنب قبر إبراهيم وإسحاق) [ج 1 – ص 32].
زمن موسى ويوشع:
يذكر أن موسى
انطلق من مدين قاصداً الأرض المقدسة مباشرة:
(فلما قضى موسى
الأجل سار بامرأته يريد بيت المقدس) [ج 1 – ص 34].
ولكن تأتي قصة
الطور والطلب منه أن يتوجه إلى مصر لهداية فرعون. ثم يتابع الحديث عن خروج موسى مع
بني إسرائيل من مصر, ويورد خبراً غريباً
بأن جماعة موسى كانوا يستعجلونه الدخول إلى الأرض المقدسة, فعاقبهم الله
بالتيه!
(وجعل بنو
إسرائيل يستعجلونه ليدخل إلى الأرض المقدسة, فأوحى الله إلى موسى أنها محرمة عليهم
أربعين سنة, فأقاموا في التيه) [ج 1 – ص 36].
والخبر ذاك يقلب
الحكاية رأساً على عقب, فالتيه عقوبة نتيجة رفض الإسرائيليين قتال الجبابرة كما
يذكر القرآن نفسه. كما أن ابن الجوزي في إحدى رواياته جعل التيه نتيجة لعنة بلعام!
وقبيل وفاة موسى
يوصي يوشع بالدخول إلى فلسطين التي ورثهم إياها الله:
(ودعا موسى يوشع
بن نون وقال له بين يدي بني إسرائيل سر, وشد قلبك فإنك تدخل ببني إسرائيل إلى أرض
بني كنعان التي ورثهم الله) [ج 1 – ص 41].
ومن جملة وصايا
موسى لجماعته, وهو من وحي التوراة:
(فأنا ميت بهذه
الأرض ولست أعبر الأردن ولكنكم ستعبرون وتصيرون إلى الأرض الصالحة التي جعلها الله
لكم ميراثاً).. (وإن الله سيدخلكم الأرض الصالحة ويجعلها ميراثاً لكم).. (إن الله
سيعطيكم قرى عظاماً لم تبنوها وبيوتاً مملوءة من الخير لم تملأوها وآباراً مطوية
لم تحفروها وكروماً وزيتوناً لم تغرسوها) [ج 1 – ص 42].
(إن الله يقول
لكم سأعطيكم البلاد الصالحة وأقدركم على الأمم التي بين أيديكم وأظفركم بالجبارين
والجرشيين والأموريين والكنعانيين والفرازيين والحوبيين والنابلسيين هؤلاء السبع
الأمم الذين هم أكثر منكم وأشد, فإذا ظفركم الله بهم فاضربوهم وارجموهم ولا
ترحموهم ولا تعطوهم ميثاقاً ولا تنكحوهم بناتكم لكيلا يكونوا لكم عثرة فيزيغون
أولادكم عني فيعبدون إلهاً غيري فيشتد عليكم غضبي فأبيدكم عاجلاً) [ج 1 – ص 43].
وتلك المقاطع
التي يستشهد بها تدل على حماسته وتضامنه مع بني إسرائيل الغزاة المعتدين, ضارباً
عرض الحائط بالشعب الكنعاني!
واليعقوبي يجعل
موسى قبيل وفاته ينظر إلى الشام كلها وليس فقط باتجاه فلسطين كما تقول التوراة:
(ثم صعد موسى
إلى جبل نابون فنظر إلى الشأم, وقال الله له: هذه الأرض التي ضمنت لإبراهيم وإسحاق
ويعقوب أن أعطيها خلفهم وقد أريتكها بعينك ولكنك لن تدخلها) [ج 1 – ص 45 , 46].
فاليعقوبي يؤكد
الهبة الممتدة عبر الشام كلها لبني إسرائيل!
ويذكر أن
السميدع وهو من سلالة عمليق يغزو الشام فيتصدى له يوشع:
(وسار إلى
الشأم, وفيها الجبابرة, ولد عمليق بن لاود بن سام بن نوح. وكان أول من ملك منهم
السميدع بن هوبر, فسار من أرض تهامة إلى الشأم يريد غزو بني إسرائيل, فوجه إليه
يوشع بن نون من قتله, ثم قام بعده من بني أبيه جماعة فقتلهم يوشع) [ج 1 – ص 46].
ثم يورد خرافة
العرافة في البلقاء التي تكشف عن المستقبل والغيب! فتعرف من سيموت من جماعتها في
القتال فتحذرهم, فلا يخرج للقتال الذي تراه سيموت في المعركة! فجاء تأخير غروب
الشمس ليوشع, لتضليل حساباتها الفلكية وكشف الغيب. وتم ذلك وفقدت القدرة على قراءة
الغيب مما أدى إلى انتصار يوشع في النهاية!
(وسار يوشع حتى
انتهى إلى البلقاء, فلقي رجلاً يقال له بالق وبه سميت البلقاء. فجعلوا يخرجون
يقاتلونه, فلا يقتل منهم رجلاً واحداً. فسأل عن ذلك فقيل له إن في مدينته امرأة
منجمة تستقبل الشمس بفرجها, ثم تحسب فإذا فرغت عرضت عليها الحيل فلا يخرج يومئذ من
حضر أجله. فصلى يوشع ركعتين ثم دعا أن يؤخر الله الشمس ساعة فأخرت له ساعة. فاختلط
عليها حسابها فقالت لبالق انظر ما كانوا يسألونك فأعطهم, فإن حسابي قد اختلط علي.
قال تصفحي آلتك وأخرجي منها فإنه لا يكون صلح إلا بقتال. فتصفحت الحيل على غير علم
منها لاختلاط الأمر عليها, فقتلوا قتلة لم يقتلها قوم, فسألوا يوشع الصلح فأبى
عليهم حتى يدفعوا إليه المرأة. فقال بالق لا أدفعها, فقالت ادفعني إليه فدفعها
إليه وصالح, فقالت له هل تجد فيما انزل على صاحبك قتل النساء, قال لا, قالت فإني
قد دخلت في دينك, قال فاسكني في مدينة أخرى فأنزلها مدينة أخرى) [ج 1 – ص 46, 47].
المملكة
المزعومة وحتى السبي:
يذكر وصية
صموئيل لشاول وهي مقتبسة من التوراة:
(فدعا شمويل
شاول وهو طالوت فقال له إن الرب أمرني أن أبعثك ملكاً على بني إسرائيل والله يأمرك
أن تنتقم من عمليق؛ فأهلك عمليق وكل ما له ولا تبق له شيئاً من رجل ولا امرأة ولا
صبي رضيع ولا عجل ولا شاة ولا بعير ولا حمار) [ج 1 – ص 49].
لا يحاول
اليعقوبي أن يناقش - على الأقل - قضية قتل المرأة والرضيع والعجل والشاة والبعير
والحمار, مع أن ذلك يتعارض مع مبادئ القتال الإسلامية!
ولكن على ما
يبدو من الصورة العامة بأنه أقرب إلى فكر عزرا التوراتي من مفاهيمه الإسلامية!
ويصف
الفلسطينيين بالحنفاء وبأنهم عبدة النجوم, ولا ندري من أين استمد تلك المعلومة:
(ثم اجتمع
الحنفاء الذين كانوا في وقت شاول فقاتلهم وهم عبدة النجوم, وخرج إليهم شاول في
جموعه فخرج منهم رجل طوله خمس أذرع يقال له غلياث وهو جالوت..) [ج 1 – ص 49].
ونشير هنا إلى
أنه عندما يتحدث فيما بعد عن أديان اليونان الروم يذكر أن منهم الصابئة ويشرح ذلك
بأنهم يسمون الحنفاء وهم يؤمنون بالخالق, فلم لم يسقط تعريفه ذاك على الفلسطينيين؟
أم هم وثنيون, وللحنفية معنيان متناقضان: عبدة النجوم والموحدون!؟
إنه مطلع على
ثقافة اليونان والروم, ويعرف تماماً بأن معظمهم وثنيون إلا طائفة منهم عدهم حنفاء,
ونتقبل ذلك منه فهناك أرسطو وأفلاطون وغيرهما.. وهو قرأ التوراة ولكن؛ ألم يقرأ
حكاية إبراهيم مع ملكي صادق, فلِمَ لم يعد فريقاً من كنعان موحداً مثل فريق
الموحدين اليونان؟!
ويتابع حكاية
داود مع جالوت ثم صراعه مع شاول.. واستلامه الملك بعد موت شاول.
ويتابع داود
مقاتلة الفلسطينيين والانتصار عليهم.. ثم يُدخل تابوت العهد على مدينة بيت المقدس
والتي عدها اليعقوبي "مدينة صهيون" نفسها:
(وسمع الحنفاء
أن داود قد ملك على بني إسرائيل واجتمعوا لقتاله فقاتلهم داود فقتل فيهم قتلاً
كثيراً حتى أبادهم. فلما فرغ من قتالهم حمل تابوت السكينة على عجل حتى أدخله مدينة
بيت المقدس) [ج 1 – ص 51].
ويتابع السرد
فيصل إلى سليمان, ومن بعده ابنه يربعام الذي ملك على الأسباط العشرة من جبل فاران. وقد ذكر القدماء أن جبل فاران
مطل على مكة, فالإسرائيليون كانوا في نظره ممتدين حتى مكة!
(وملكت الأسباط
العشرة عليهم يوربعم - يربعام - بن ناباط وكان قد هرب من سليمان إلى مصر... ).. (.. وملك
يوربعم بن ناباط على العشرة الأسباط من جبل فاران...) [ج 1 – ص 61].
ثم يذكر بأنه
أقام مذبحاً, فهل أقامه في مكة, كلامه فيه غموض لكنه يتضح من السياق أنه لم يخرج
من دائرة فلسطين. وما ذكره عن وجود يربعام في جبال فاران يعني أنه وصل مكة برأيه!
ويتابع فيذكر خبراً عن أشعيا بأنه قتل في زمن منسّى,
فسلط الله عليه قسطنطين الرومي فغزا منسا وأسره!!
(ثم ملك بعد
حزقي منشا بن حزقيل فكفرت بنو إسرائيل في أيامه وكفر وعبد الأصنام وكان شر ملك في
بني إسرائيل, وبنى للأصنام مسجداً واتخذ صنماً له أربعة أوجه, فنهاه أشعيا فأمر به
فنشر بالمنشار من رأسه إلى رجليه, فسلط الله على منشا قسطنطين ملك الروم فحاربه
وأسره فأقام في الأسر زماناً, ثم تاب إلى ربه فرده الله إلى ملكه فكسر الصنم وهدم
بيوت الأصنام) [ج 1 – ص 64 , 65].
ولا ندري عن
مصدره الذي يستند إليه في معلوماته تلك, فالأسفار تذكر بأنه بعد موت
حزقيا استلم ابنه منسَّى وعمره اثنتا عشرة سنة,
ثم استلم ابنه آمون ومن بعده ابنه يوشيا الذي في عهده جاء ملك مصر نخو/ نكو
لمحاربة ملك أشور عند الفرات، وفي طريقه قتل يوشيا,
ومن ثم خضعت مملكة
يهوذا للنفوذ المصري وصارت تدفع الجزية لملكها.
يتداخل الزمن عند اليعقوبي بشكل يطوي القرون
الطويلة, ومع أنه يعتمد على الأسفار إلا أنه يخلط بين الأسماء والأزمان!
ويتحدث عن بني إسرائيل وهم في الأسر البابلي وعن
مجيئهم إلى فلسطين، ولكنه يغيب فلسطين ويصرح بأنها بلد الإسرائيليين!
(ولم يزل بنو
إسرائيل في الأسر تحت يد بخت نصر حتى تزوج امرأة منهم يقال لها ملحات زربابل بنت
سلتائيل, فسألته أن يرد قومها إلى بلدهم, فلما رجع بنو إسرائيل إلى بلدهم, ملكوا عليهم زربالبل بن سلتائيل فبنى مدينة بيت المقدس وبنى الهيكل) [ج 1 –
ص 65 , 66]!
إذا كنا نهاجم
ديورانت وويلز وغيرهما لأنهم في حديثهم عن تاريخ فلسطين القديم, يستخدمون تعبير
"بلاد اليهود" ويغيبون شعب فلسطين, فماذا نقول عن مؤرخينا كاليعقوبي
وغيره وقد استخدموا التعبير نفسه "بلاد اليهود", وغيبوا شعب فلسطين
وغيره!
إن اليعقوبي
بالنسبة للتاريخ القديم حكواتي وليس مؤرخاً! ولكن تبقى لكتابه قيمة إذ أنه أول
مؤلَف عربي مسلم يكتب عن التاريخ العام والحضارة؛ وقد عرض في كتابه بشكل لائق
كتباً في الأدب والفلسفة والطب والعلوم..
* *
*
مطهر بن طاهر المقدسي
"توفي 507 هـ"
أو (أبو زيد
أحمد بن سهل البلخي) (5)
"البدء
والتاريخ"
يتحدث المقدسي
عن منهجه:
(وتتبعت صحاح
الأسانيد ومتضمنات التصانيف وجمعت ما وجدت في ذكر مبتدأ الخلق ومنتهاه, ثم ما
يتبعه من قصص الأنبياء عليهم السلام, وأخبار الأمم والأجيال, وتواريخ الملوك ذوي
الأخطار من العرب والعجم, وما روي من أمر الخلفاء من لدن قيام الساعة إلى زماننا
هذا, وهو سنة ثلثمائة وخمس وخمسين من هجرة نبينا محمد "ص") [ج 1 - ص 6].
وبعد أن يعدد
الذين يروي عنهم وهم ابن عباس ومجاهد وابن إسحق والضحاك وكعب ووهب وابن سلام
والسدي والكلبي ومقاتل وغيرهم.. يقول إنه سيأخذ عمن:
(يتحرى هذا
العلم وينحو نحوه فلنذكر الأصح من رواياتهم والأقسط للحق) [ج 2 - ص 77].
فهل أولئك الذين
أعلمنا بأنه سيأخذ عنهم ذكروا الأصح والأقسط!؟
خرافة السلالات
البشرية:
وقع المقدسي كما
وقع غيره في فخ السلالات التوراتية, فهو يروي عن ابن إسحق موت كنعان في الطوفان [ج
3 - ص 17].
ولكنه يعود
ليستنسخه مع نسل حام كما فعل غيره!
(كوش وفوط
وكنعان).. (ولد كنعان السودان ونوبة وفزان والزنج وذغل وزغاوة وبربر).
ويذكر أن
الكنعانيين من سلالة حام, ثم يذكر أنهم ساميون ومنهم الكنعانيون:
(فمن ولد لاوذ
أجناس الفرس كلها وجرجان وطبرستان وطسم وجديس وعملاق وأميم. وأما عملاق فأبو
العمالقة تفرقت منهم الجبابرة والعتاة الذين كانوا بأرض الشام يقال لهم الكنعانيون
ومنهم فراعنة مصر) [ج 3 - ص 27]!
ولاوذ وهو ابن
سام بن نوح, ولد عملاق, الذي نزل منطقة الحرم ومصر والشام:
(نزل عملاق بن
لاوذ بن سام بن نوح أكناف الحرم ومصر والشام) [ج 3 - ص 28]!
هجرة إبراهيم:
عندما يورد
حكاية نمرود مع إبراهيم يروي سلالتين, الأولى يجعل فيها نمرود ابن كنعان مباشرة,
والأخرى من سلالته:
(نمروذ بن كنعان
بن كوش بن حام بن نوح, ويقال نمروذ بن كوش بن سيحاريب بن كنعان بن سام بن نوح
والله أعلم) [ج 3 - ص 46]!
ويهاجر إبراهيم
من بابل إلى حران فالشام طبقاً لرواية التوراة:
(وأمره – الله -
بالهجرة من أرض بابل إلى الشام فراراً بدينه).. (ثم خرجوا من حران إلى أرض فلسطين)
[ج 3 - ص 51 , 52].
ويذهب إلى مصر
ثم يأتي إلى فلسطين ويشتري حقل حبرون ويُدفن فيه عندما يموت, ومن ثم يُدفن فيه
فيما بعد إسحق فيعقوب.
ويتحدث عن زواج
إبراهيم من امرأتين كنعانيتين (ولما ماتت سارة تزوج إبراهيم امرأة من الكنعانيين
يقال لها قطورا فولدت به أربعة نفر, وتزوج امرأة أخرى فولدت له سبعة نفر) [ج 3 - ص
53].
ويجعل قرى لوط
قرى فلسطينية:
(أرض سدوم
وكاروما وعمورا وصبوآيم, أربع قرى من فلسطين) [ج 3 - ص 57].
ويتابع الحكايات
مدعياً حدوثها على أرض فلسطين إلى أن نصل إلى موسى.
موسى ويوشع:
(ولما أهلك الله
قوم فرعون أمر موسى بالمسير إلى الشأم, وأن يقاتل الجبارين ويجليهم عنها, فإن تلك
الأرض المقدسة ميراث أبيكما إبراهيم) [ج 3 - ص 87].
ويتابع حديثه عن
فتح فلسطين على يد يوشع, فيروي خبراً أنه: (افتتح بلقآء مدينة الجبارين بعد موسى
وقتل الجبابرة).. وأنه: (قتل بالق ملك بلقآء والسميدع بن هوبر ملك الكنعانيين) [ج
3 - ص 96].
مملكة داود
المزيفة وحتى السبي:
يتحدث عن داود
وجالوت ناسباً جالوت إلى العمالقة:
(فقتل داود
جالوت رأس العمالقة وهزموهم) [ج 3 - ص 98].
ويستغرق في
الحديث عن مُلك داود.. ويتابع على نمط التوراة والآخرين إلى أن يصل إلى زمن يحيى
بن زكريا, فيذكر إحدى الروايات التي تعلل تخريب نبوخذ نصر لبيت المقدس وقتله وسبيه
بني إسرائيل, انتقاماً لمقتل يحيى, فقد سلط عليهم:
(بخت نصر فقتل
على دم يحيى سبعين ألفاً وخرب بيت المقدس) [ج 3 - ص 118].
لن نسترسل مع
المقدسي أكثر, فما ذكر يعطي فكرة عنه وعن تصوره لتاريخ العرب قديماً ولا سيما
فلسطين. وهو لم يلتزم بمنهجه الذي ذكره في مقدمته وادعى فيه بأنه سيجعل تاريخه:
(مهذباً من شوائب
التزيد, مصفى عن سقاط الغسالات, وخرافات
العجائز وتزاوير القصاص, وموضوعات
المتهمين من المحدثين) [ج1 - ص 5 , 6].
* *
*
عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي أبو
الفرج "توفي 597
هـ"
"المنتظم في
تاريخ الملوك والأمم"
يوحي اسم الكتاب
بأنه مؤلفه سيتكلم عن تاريخ الأمم, ولكن حظ الأمم عنده لا يختلف عن سواه ممن لم
يذكر الأمم. وعلى الرغم من ذكره لفلسطين وعده لشعب كنعان من العرب العاربة, إلا
أنه بقي أسير التوراة بأنهم كفار وثنيون, وبأن أرض كنعان لبني إسرائيل!
يشرح دوافعه
لتأليف الكتاب:
(فإني رأيت
النفوس تشرئب إلى معرفة بدايات الأشياء وتحب سماع أخبار الأنبياء, وتحن إلى مطالعة
سير الملوك والحكماء وترتاح إلى ذكر ما جرى للقدماء. ورأيت المؤرخين يختلف مقادهم
في هذه الأنباء؛ فمنهم من يقتصر على ذكر الأنبياء, ومنهم من يقتصر على ذكر الملوك
والخلفاء. وأهل الأثر يؤثرون ذكر العلماء يحبون أحاديث الصلحاء, وأرباب الأرب
يميلون إلى أهل الأدب والشعراء, ومعلوم الكل مطلوب والمحذوف من ذلك مرغوب, فآتيتك
بهذا الكتاب الجامع لغرض كل سامع يحوي المراد من جميع ذلك) [ج 1 – ص 115].
وهو سيرفض
الخرافات والأخبار السخيفة:
(فإن خلفاً من
المؤرخين ملأوا كتبهم بما يرغب عن ذكره تارة من المبتدآت البعيدة المستهجن ذكرها
عند ذوي العقول, كما قد ذكر في مبتدأ وهب بن منبه وغيره من التي تجري مجرى
الخرافات, وتارة يذكر حوادث لا معنى لها ولا فائدة..) [ج 1 – ص 116].
وبالتالي يعد
كتابه:
(مرآة يرى فيها
العالم كله, والحوادث بأسرها, إلا أن يكون من وقع له فليس لذلك ذكر أو حادثة لا
يغنى تحتها ولا وجه لذكرها. وقد انتقى كتابنا التواريخ كلها, وأغنى من يعنى بالمهم
منها عنها وجمع محاسن الأحاديث والأخبار بالتواريخ, وانتخب أحسن الأشعار عند ذكر
قائلها وسلم من فضول الحشو ومرذوله ومن لم يدخل فيه ما يصلح حذفه..) [ج 1 – ص
118].
ما هو مفهوم
الخرافة ومفهوم الأحاديث التي لا معنى لها ولا فائدة, وإلى أي مدى سيبحث عن
الحقيقة والتدقيق في المعلومة, وهل حقاً كتابه مرآة؟
تصدمنا أخباره
الأولى عن التكوين؛ فهو مثلاً عندما يتحدث عما تحت الأرض يدخل عالم الخرافة من
أوسع أبوابها بما يذكره عن كعب وابن عباس ووهب:
(قال كعب هذه
الأرض على صخرة خضراء في كف ملك, وذلك الملك قائم على ظهر الحوت وذلك منطو
بالسموات السبع من تحت الأرض. وقال ابن عباس الصخرة على منكبي ملك والملك على
الثور والثور على الماء والماء الريح. وقال وهب اسم الحوت بهموت) [ج 1 – ص 172]!!
وعندما يتحدث عن
السفينة لم يفته ذكر نشأة الخنزير والسنور الخرافية المضحكة!!
(قال قتادة ..
وكانت – السفينة - ثلاث طبقات: فطبقة فيها الدواب والوحش, وطبقة فيها الإنس, وطبقة
فيها الطير. فلما كثرت أرواث الدواب أوحى الله تعالى إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل
فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث. فلما وقع الفأر بخرز السفينة أوحى
الله إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على
الفأر.. ) [ج 1 – ص 240].
فهل بعد ذاك
ستكون لفلسطين صورة مغايرة لما قدمه المؤرخون قبله؟!
إنه لن يخرج من
ثوب المؤرخين قبله!
خرافة السلالات
البشرية:
ففي حديثه عن
دفن آدم يروي ما قيل في ذلك ومن جملته:
(ولما ركب نوح
حمل معه – آدم - فلما خرج من السفينة دفن آدم ببيت المقدس) [ج 1 – ص 228]!
كما يروي عن ابن
جرير حكاية حام في السفينة:
(قال ابن جريج
حدثت أن حاماً أصاب امرأته في السفينة فدعا عليه نوح فتغير نطفته بالسودان) [ج 1 –
ص 241], ويذكر أيضاً رواية التوراة حول رؤية حام لعورة أبيه [ج 1 – ص 247].
وفي بابل يكرر
خبر سلالة نمرود بن كنعان بن حام!
ويكرر ما ذكره
السابقون عن أولاد نوح: سام وحام ويافث من خلال سعيد بن المسيب ووهب بن منبه
وقتادة..
ويتحدث عن توزع
نسل أولاد نوح, وما يهمنا هنا كنعان:
(ولحق قوم من
بني كنعان بالشام فسميت الشام حيث تشاموا, الشام يقال لها أرض كنعان. وكانت
العماليق في بلدان شتى).
وهو يذكر بأنهم
وجدوا في مناطق متعددة: عمان والبحرين ومصر ومكة والمدينة والحجاز, إلى أن يقول:
(والطائفة التي كانت منهم يقال لها الكنعانيون وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها وهم
الجبابرة المعروفون) [ج 1 – ص 251].
فالكنعانيون
الجبابرة وثنيون!
هجرة إبراهيم وعصر الآباء:
يذكر أن إبراهيم
خرج مع زوجته من حران إلى مصر وعندما خرج من مصر جاء إلى فلسطين:
(وخرج بها من
حران حتى قدم مصر) [ج 1 – ص 263].. (ثم إن إبراهيم خرج من مصر إلى الشام فنزل
السبع من أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة من السبع) [ج 1 – ص 264].
ويذكر زواج
إبراهيم بعد وفاة زوجته سارة من كنعانية كما هو وارد عند الآخرين وبأنها من العرب
العاربة:
(قال ابن إسحاق
لما ماتت سارة تزوج بعدها من الكنعانيين من العرب العاربة واسمها بنت يقطان ويقال
بنت مقطور) [ج 1 – ص 285].
وذكر رواية
الضحاك التي تزعم أن إبراهيم وإسحق ويعقوب وإسماعيل دعوا إلى رسالة التوحيد:
(زعم الضحاك بن
مزاحم أن إسحاق أول مرسل بعد إبراهيم, قال ولم يمت إبراهيم حتى بعث إلى أرض الشام,
وبعث يعقوب بن إسحاق إلى كنعان, وبعث إسماعيل إلى جرهم وبعث إلى سدوم) [ج 1 – ص
307].
لكن مزعم الضحاك
مختلق, حيث لم يرد في التوراة أي ذكر لأية محاولة من إبراهيم أو أولاده أو نسله
عبر يعقوب, لهداية أي شعب للإيمان, كما أن الكثيرين لم يأخذوا بها. وعلى كل هو زعم
وقد قالوا قديماً: زعم مطية الكذب!!
موسى وحتى
السبي:
يكرر ابن الجوزي
ما ذكرته التوراة عن وصول موسى إلى حدود فلسطين (أريحا وهي أرض بيت المقدس) [ج 1 –
ص 351].
ويروي خرافة
العماليق وعوج بن عناق كما وردت عند الآخرين..
وخلال حديثه عن
بلعام يورد الحكاية التقليدية, ولكنه يورد خبراً غريباً عن سبب التيه يختلف عن
الرواية التقليدية؛ فهو يذكر أن التيه نتيجة دعوة بلعام! وهذا يعني اضطرار الله
لاستجابة دعوته له رغم تبنيه لموسى وبني إسرائيل, فدعوة بلعام لا ترد, وقد قال
مؤرخونا القدماء إن لديه الاسم الأعظم!
(وقد قيل إن
بلعام لما دعا على قوم موسى تاهوا) [ج 1 – ص 356]!
كما يذكر خبراً
عن مقاتلة موسى لليونانيين ولكنه لا يذكر مصدره:
(وحارب
الكنعانيين وقتل عوج وحارب موسى اليونانيين والأمم الكافرة) [ج 1 – ص 356]!
ويتحدث عن يوشع
بأنه:
(هو الذي قسم
الشام بين بني إسرائيل) [ج 1 – ص 377].
ويكرر حكايته
الخرافية في أريحا ومقاتلة العماليق.
ثم يتحدث عن
مصير من بقي من الكنعانيين والذي انتهى إلى شمال إفريقية:
(وزعم هشام بن
محمد الكلبي أن بقية بقيت من الكنعانيين بعد قتل يوشع من قتل منهم وأن إفريقيش بن
قيس بن صيفي بن سبأ بن كعب مر بهم متوجهاً إلى أفريقية فاحتلها ملوكها وأسكنها
البقية التي بقيت من الكنعانيين. فهم البرابرة وإنما سموا لأن أفريقيش قال لهم ما
أكثر بربرتكم فسموا لذلك بربراً) [ج 1 – ص 378].
ورغم إنهائه
الوجود الكنعاني إلا أنه يعود كغيره لذكر الفلسطينيين فيما بعد وكأنهم شعب آخر,
وتسلطهم على بني إسرائيل في عصر القضاة وداود كما في التوراة, علماً بأن المؤرخين
يذكرون أن العماليق في عهد موسى ثم في عهد داود, والذين في عهد موسى سموهم الكنعانيين
بينما الذين في عهد داود سموهم الفلسطينيين, ناسين أنهم جعلوا العماليق كلهم من
نسل واحد!
وهذا يعني أنه
وغيره ينقلون ما تقوله التوراة والرواة، والعهدة على الراوي!
ويذكر رواية
بختنصر في زمن يحيى ومقتله ولكن يطعن بصحتها.
ونكتفي عند هذا
الحد مع ابن الجوزي فكتابه ليس إلا نسخة كربونية عما سبقه خاصة تاريخ الطبري, سوى
بعض الأخبار التي لا يذكر ابن الجوزي مصادرها ولعل بعضها من تأليفه. والغريب أن
ولعه بمناقشة القضايا وتجزئتها وتفريعها كتلميذ لابن تيمية, لم ينعكس على تأريخه
القديم!
* *
*
ابن عساكر: علي بن
الحسن "توفي 571 هـ"
"تاريخ
دمشق"
ابن عساكر يعتمد
على من سبقه من الرواة والقصاصين قراءة أو سماعاً, إضافة إلى الموروثات الشعبية.
كما يعتمد على النصوص الدينية القرآنية والأحاديث النبوية. وهو أقرب إلى منهج
الطبري التجميعي والاهتمام بالسند وتعدد الروايات للخبر الواحد لكن دونما تمحيص.
وقد عد عدم الاهتمام بالسند سمة طبيعية في الشام:
(لأن الغالب على
أحاديث أهل الشام أحاديث الفتن والملاحم, أو لأنهم لا يسألون عن الإسناد ويأخذون
الأحاديث كما تيسر) [ج 1 - ص 363].
وكتابه الموسوعة
في الأعلام بلغ ثمانين مجلداً, وقد رتبه بحسب حروف المعجم. مع تخصيص الجزء الأول
ومعظم الجزء الثاني حول الشام تاريخاً وفضلاً وأهمية ولا سيما بيت المقدس ودمشق.
ولن نجد في عمله
الموسوعي ما نصبو إليه من رؤية مختلفة للتاريخ القديم, فهو نسخة إضافية كما
سنتبين.
خرافة السلالات
البشرية:
قبل الدخول في السلالات,
سنذكر ما رواه ابن عساكر عن أصل تسمية كلمة الشام. فهو بعد أن يشرح معنى الشام
لغوياً:
(والشام فيه وجهان يجوز أن يكون
مأخوذاً من اليد الشؤمى وهي اليسرى.. ).. (ويجوز أن يكون فعلى من الشؤم. قال ويقال
أنجد أتى نجداً وأعرق دخل العراق وأعمن أتى عمان, وقد أشأم أتى إلى الشام وبصر
وكوف وأمن ويامن إذا أتى اليمن).
ينقل عن ابن
المقفع تكهنات أخرى:
(قال ابن المقفع
سميت الشام بسام بن نوح, وسام اسمه بالسريانية شام وبالعبرانية شيم, وقال الكلبي
سميت بشامات لها حمر وسود وبيض ولم ينزلها سام قط. وقال غيره سميت الشام لأنها عن
شمال الأرض كما أن اليمن أيمن الأرض فقالوا تشام الذين نزلوا الشام وتيمن الذين
نزلوا اليمن, كما تقول أخذت يمنة أي ذات اليمين وشآمة أي ذات الشمال. وقال بعض
الرواة إن اسم الشام الأول سورية وكانت أرض بني إسرائيل قسمت على اثني عشر سهماً
فصار لكل قسم تسعة أسباط ونصف في مدينة يقال له سامر وهي من أرض فلسطين, فسار
إليها متجر العرب في ذلك الدهر ومنها كانت ميرتهم فسموا الشام بسام بن نمر حذفوا
فقالوا الشام) [ج 1 - ص 10].
فكيف تكون
التسمية نسبة لسام والذي سكنها كنعان وهو من نسل حام؟
ولنترك بقية
الاحتمالات سواء الجهة الجغرافية أو الشؤم فهي أوهام لا أكثر. والماضي السحيق
محسوم عند مؤرخينا فالشام كانت للكنعانيين, ثم آلت إلى بني إسرائيل كما يرون بناء
على الإسرائيليات:
(ولحق قوم من
بني كنعان بن حام بالشام فسميت بالشام حيث تشآموا إليها, وكانت الشام يقال لها أرض
بني كنعان, ثم جاءت بنو إسرائيل فقتلوهم بها ونفوهم عنها فكانت الشام لبني
إسرائيل, ووثبت الروم على بني إسرائيل فقتلوهم وأجلوهم إلى العراق إلا قليلاً
منهم, وجاءت العرب فغلبوا على الشام) [ج 1 - ص 8].
ويذكر ابن عساكر
أن فالغ هو الذي قسم الأرض بين السلالات:
(وكان فالغ بن
عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح هو الذي قسم الأرض بين بني نوح) [ج 1 - ص 8].
ويعنعن خبراً..
قال:
(ولد نوح ثلاثة
سام وحام ويافث فولد سام كل حسن الصورة حسن الشعر, وولد حام كل أسود جعد قطط, وولد
يافث كل عظيم الوجه صغير العينين. قال ودعا نوح على حام أن يسود الله زرعه ولا
يعدو شعر بنيه آذانهم وحيث ما لقي ولده ولد سام استعبدوهم) [ج 62 – ص 278 , 279].
وهو يذكر أيضاً
الرواية التي تذكر أن ابن نوح العاصي كنعان رفض أن يركب السفينة مع أبيه وقد غرق
في الطوفان:
(وغرق كنعان
ابنه حين قال "سآوي إلى جبل يعصمني من الماء", يقول الله عز وجل
"وحال بينهما الموج فكان من المغرقين") [ج 62 ص 258]!
ويروي حكاية
جديدة لنوح مع حام وهي تختلف عن النص التوراتي وما ورد، لكنه يرفضها, وهي:
(أن نوحاً اغتسل
قال فرأى ابنه ينظر إليه فقال تنظر إلي وأنا أغتسل, حام الله لونك. قال فاسواد.
قال فهو أبو السودان) [ج 62 – ص 278].
وبالتالي يروي
ما يراه صحيحاً وهو المتوافق مع النص التوراتي والموروث الإسرائيلي:
(وذلك أن نوحاً
لما هبط من السفينة وعمر الأرض, فنام ذات يوم فبدت عورته, فنظر إليه حام ابنه
فضحك, فلم يغر عليه يافث, ورأى ذلك سام فزبره وغطى عورة أبيه, فلما استيقظ أخبره
بذلك. فدعا نوح حاماً فقال: يا بني غير الله ماء صلبك فلا تلد إلا السودان, ودعا
يافث فقال: يا بني جعل الله ذريتك عبيداً لولد سام, وقال لسام: يا بني جعل الله
منك الأنبياء والمرسلين والصالحين والملوك. فولد لحام الهند والسند والحبش والزنج
والزط والنوبة وفزان وجميع سواحل السودان, وولد ليافث الترك والصين والبربر وما
وراءه والصقالبة ويأجوج ومأجوج ومنسك وثارس وفارس... وولد لسام العرب والروم.
وإنما سمي الشام لأن ساماً نزلها وسمي بلقاء لأن بالق نزلها) [ج 62 ص 270]!
كما يذكر خبراً
غريباً فيه كنعان المستنسخ دائماً للشر والظلم والطغيان, ملك جبار من العماليق أو
من بني إسرائيل وفي عهد ذي الكفل:
(وذلك أن ملكاً
جباراً يقال له كنعان وكان من العماليق, ويقال بل كان من بني إسرائيل, وكان لا
يطاق في زمانه لظلمه وطغيانه, وكان ذو الكفل يعبد الله عز وجل سراً منه ويكتم
إيمانه وهو في مملكته, فقيل للملك إن في مملكتك رجلاً يفسد عليك أمرك ويدعو الناس
إلى غير عبادتك فبعث إليه ليقتله فأتى به... ) [ج 17 - ص 371].
هجرة إبراهيم:
يروي ما قيل عن
موطن إبراهيم الأول, ومنه أنه ولد في برزة قرب دمشق:
(سمعت شيوخنا
الدمشقيين قديماً يذكرون أن الآثارات التي بدمشق في برزة, عند مسجد إبراهيم عليه
السلام التي في الجبل عند الشق, أنه مكان إبراهيم. وأن الآثارات التي فوق في
الجبل, هي موضع رأى إبراهيم الكوكب الذي ذكر الله تعالى في كتابه "فلما رأى
كوكباً قال هذا ربي", أنه كان في الجبل في ذلك الموضع وهو معروف) [ج 2 - ص
327].
وهو في الوقت
الذي يكرر فيه الخبر بسند آخر (قيل إن أمه كانت تخبئه في كهف في جبل بقرية برزة في
الموضع الذي يعرف بمقام إبراهيم اليوم), يؤكد على أنه ولد في إقليم بابل بالعراق,
فهو يروي معنعناً:
(عن مكحول عن ابن عباس أنه ولد
إبراهيم بغوطة دمشق في قرية يقال لها برزة في جبل يقال له قاسيون. كذا في هذه
الرواية, والصحيح أن إبراهيم ولد بكوثي من إقليم بابل أرض العراق وإنما نسب إليه
هذا المقام لأنه صلى فيه إذ جاء معيناً للوط النبي) [ج 6 - ص 164].
وقد وردت كوثى
في بعض رواياته على أنها مكة:
(وكوثى مكة
بالعبرانية) [ج 61 - ص 100], ومعنى ذلك أنه ولد في مكة!
ويتحدث عن خروج
إبراهيم من العراق إلى حران ثم إلى فلسطين, شارحاً معنى العبور والعبرانية..
والملفت للنظر أنه جعل أبيمالك ملك كنعان في الشام معدلاً حكايته عما وردت في
التوراة, وقد عدّ الشام تابعة لفلسطين في تلك الأزمان:
(وخرج إبراهيم
من حران يؤم أرض بني كنعان حتى عبر الفرات إلى الشام فانحرف لسانه عن السريانية
إلى العبرانية, وإنما سميت العبرانية لأنه تكلم بها حين عبر الفرات. ومضى حتى أتى
أبتملك "أبيمالك" ملك بني كنعان بالشام وعظيمهم الذي يدين له عظماؤهم
يومئذ, وكان ينزل عين الجر من أرض البقاع من حد دمشق, وكانت الشام يومئذ منسوبة
إلى فلسطين. فقال له أبتملك إنه لا طاقة لي بمعاندة نمرود وقد جاورتنا مخالفاً له,
فقال إبراهيم إن إلهي يمنعك منه, فأجار إبراهيم وسأله أن يزوجه سارة. فقال إنها
زوجتي فلم يعرض لها, وقال انزل حيث شئت من أرضنا وبعث إلى عظماء النواحي يأمرهم
بحفظه وحسن مجاورته. فنزل اللجون قرية من قرى الأردن ثم تحول منها إلى أرض فلسطين
فنزل بناحية منها يقال لها السبع من أرض بيت جبرين, ثم تحول إلى قرية يقال لها
حبرى فيما بين بيت جبرين وبيت المقدس فأقام بها) [ج 69 – ص 182].
زمن موسى:
يتحدث عن مسار
موسى مع بني إسرائيل إلى بيت المقدس:
(وسار موسى بهم
متوجهاً نحو الأرض المقدسة) [ج 61 – ص 91].
(إن موسى أقام
بمصر حتى أوحى الله إليه أن يخرج إلى الأرض المقدسة) [ج 61 – ص 99].
وأن الأرض
المقدسة لبني إسرائيل:
(عن وهب بن
منبه: إن الله أوحى إلى موسى أن سر ببني إسرائيل حتى يدخلوا الأرض المقدسة فقد
كتبتها لكم) [ج 61 – ص 102].
ويذكر بأن موسى
لم يدخل الأرض المقدسة إنما دخلها من بعده خليفته يوشع بن نون.
وعندما يتحدث عن
موت موسى يورد إحدى الروايات عن عبد الله بن سلام والتي تقول إن قبر موسى في دمشق:
(عن مكحول عن
عبد الله بن سلام قال بالشام من قبور الأنبياء ألف قبر وسبعماية قبر, وقبر موسى
بدمشق) [ج 2 – ص 411].
***
حجر داود - عذوبة
صوت داود:
وإذا ما انتقلنا
إلى داود نجد خرافة الحجر تتطور على يدي ابن عساكر فيصير ثلاثة, فيقضي على جالوت
وجناحي جيشه من الفلسطينيين:
(وقذف داود
الحجر في مقلاعه ثم أرسله فصار الحجر ثلاثة: فأصاب أحدهم جبهة جالوت فنفذها منه
فألقاه قتيلاً, وذهب الحجر الآخر فأصاب ميمنة جند جالوت فهزمهم, والثالث أصاب
الميسرة فهزمهم, وظنوا أن الجبال قد خرت عليهم فولوا مدبرين وقتل بعضهم بعضاً) [ج
17 – ص 82]!
وهو لا يأتي
بجديد عن داود وسليمان, ولكن هناك رواية طريفة عن وهب بن منبه تتحدث عن اختراع
إبليس للآلات الموسيقية:
(داود كان يقرأ
الزبور بصوت لم تسمع الآذان بمثله قط فتعكف الجن والإنس والطير والدواب على صوته
حتى يهلك بعضها جوعاً. فخرج إبليس مذعوراً لما رأى من استئناس الناس والدواب بصوت
داود بالزبور, فدعا عفاريته فقال ما هذا الذي دهاكم فيمن أنتم بين ظهريه؟ قالوا
مرنا بما أحببت. قال فإنه لا يصرفهم عنه إلا ما يشبه ما يسمعون منه, فعند ذلك
احتفروا المزامير والبرابط واتخذوا الصنوج على أصناف صوته, فلما سمع ذلك غواة
الناس والجن انصرفوا إليهم وانصرفت الدواب والطير أيضاً) [ج 17 – ص 100].
إن هدف إبليس
مبدع الآلات الموسيقية, إبعاد الناس عن العبادة كما يقول وهب, والمعروف في كتب
تراثنا وكما روى الكثيرون أن كنعان الفاسد هو أول من اخترع تلك الآلات من بعد
الطوفان, ليفسد البشر كما يذكر اليعقوبي (وكان كنعان أول من رجع من ولد نوح إلى
عمل بني قابيل, فعمل الملاهي والغناء والمزامير والطبول والبرابط والصنوج, وأطاع
الشيطان في اللعب والباطل), فلا فرق إذاً عند مؤرخينا بين كنعان الذي ألبسوه الكفر
واللعنة وسوء الأخلاق والفساد – نتيجة التأثر بالإسرائيليات – وبين إبليس!!
***
ولنتابع مع ابن
عساكر باختيار بعض الروايات التي ذكرت المرويات الإسرائيلية أن أحداثها في فلسطين,
فنقلها ابن عساكر إلى دمشق, ومنها قضية السبي فهو يذكر أن بختنصر كان في عهد يحيى بن
زكريا, وأن الحكاية جرت في دمشق:
(حتى بعث الله
بخت ناصر عقوبة لقتل يحيى بن زكريا, قال: فدخل دمشق من باب توما وباب الشرقي ومضى
حتى أتى الدرج فصعد فجلس على الكنيسة, فوجد دم يحيى بن زكريا يغلي ويفور ويسيل,
قال: فعجب لذلك, ثم قال: ما بعثت إلا لأنتصر لهذا الدم فما أزال أقتل عليه أبداً
حتى يسكن ويغيب)..
وبقي يقتل ودم
يحيى يفور حتى جاء إرميا فخاطب الدم حتى هدأ وسكن, ومن ثم أخذ الإسرائيليون بالهرب
إلى بيت المقدس. فلحق بهم بختنصر وهدم البيت:
(وهرب من هرب
منهم إلى بيت المقدس. قال فتبعهم إلى بيت المقدس حتى دخلها وخربها وسبى وقتل فيها
ثم رجع) [ج 64 – ص 210].
ولكنه يذكر
الخبر المناقض:
(قال قتل على
الصخرة التي في بيت المقدس سبعين نبياً منهم يحيى بن زكريا) [ج 64 – ص 217].
ويورد خبراً عن
ابن عباس حول دمشق وقاسيون, يجمع فيه مكان قتل هابيل وحياة يحيى وعيسى وقبر مريم
بنة عمران وابنها:
(عن مكحول عن
ابن عباس قال: موضع الدم في جبل قاسيون موضع شريف؛ كان يحيى بن زكريا وأمه فيه
أربعين عاماً, وصلى فيه عيسى بن مريم والحواريون. فلو كنت سألت الله أن يغفر الله
تعالى لعبده ابن عباس يوم يحشر البشر. فمن أتى ذلك الموضع فلا يقصر عن الصلاة والدعاء
فيه فإنه موضع الحوائج, ومن أراد أن يرى "وآويناهما إلى ربوة ذات قرار
ومعين" فليأت النيرب الأعلى بين النهرين وليصعد إلى الغار في جبل قاسيون
فيصلي فيه فإنه بيت عيسى وأمه وهو كان معقلهم من اليهود. ومن أراد أن ينظر إلى إرم
فليأت نهراً في حفر دمشق يقال له بردا, ومن أراد أن ينظر إلى المقبرة التي فيها
مريم بنة عمران وابنها والحواريون فليأت مقبرة الفراديس) [ج 2 – ص 336 , 337].
وأورد الخبر
بشيء من التعديل في مكان آخر وفيه حذف لموسى:
(عن مكحول عن
ابن عباس قال: من أراد أن يرى الموضع الذي قال الله عز وجل "وآويناهما إلى
ربوة ذات قرار ومعين" فليأت النيرب الأعلى بدمشق بين النهرين, وليصعد الغار
في جبل قاسيون, فيصلي فيه فإنه بيت عيسى وأمه وهو كان معقلهم من اليهود, ومن أراد
أن ينظر إلى إرم فليأت نهراً في حفر دمشق يقال له بردا, ومن أراد أن ينظر إلى
المقبرة التي فيها مريم بنت عمران والحواريون فليأت مقبرة الفراديس وهي مقبرة
دمشق) [ج 2 – ص 411].
وأخيراً, لعل حب
ابن عساكر للشام هو الذي دفع عواطفه الجياشة لجعل الشام مركز الكون ومحوره.. ولو
تتبعنا ما قاله لقلنا كاد أن يقول الوجود كله هو الشام, لولا مكة والمدينة
ومكانتهما الأعظم دينياً!
* *
*
ابن خلدون: أبو
زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون "توفي 808
هـ"
"كتاب العبر، وديوان المبتدأ
والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"
تحدثنا سابقاً
عن حملة ابن خلدون على المؤرخين الذين يعتمدون على النقل دون تمحيص, ولكن ذاك
الادّعاء لم يكن منهجاً مطبقاً في تاريخه، فهو في مقدمته قدم لنا بحثاً تجاوز فيه
عصره في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.. ولكنه أضاع ذاك المنهج الرائع عند التطبيق,
نتيجة إيمانه بصحة التوراة, ونتيجة اعتماده على الطبري والمسعودي وابن إسحاق وابن الكلبي...
فماذا يتبقى من منهجه بعد الأخذ منهم؟
وهو بالطبع
يحاول بين آونة وأخرى أن يحكم عقله بمنطق سليم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لكنه
يبقى الأضعف أمام التراث، فهو في النهاية ابن بيئته. ومن هنا تظهر تلك الومضات
الثاقبة والتي لا تفتح آفاقه لمزيد من التأمل والمراجعة فتضيع ضمن المسار العام.
وكمثل يذكر في إحدى رواياته أن الطوفان لم يكن شاملاً المعمورة كلها:
(واعلم أنّ الفرس والهند لا يعرفون
الطوفان، وبعضُ الفرس يقولون كان ببابلَ فقط) [المجلد 2 - ص 7].
وهنا لا ننسى ابن كثير المتشدد كشيخه ابن تيمية, وقد
كفّر من يؤمن بمحدودية الطوفان!
ومثال آخر جيد
ينتقد فيه عدد الإسرائيليين الهائل في التيه كما تذكر التوراة, وكما نقله عنها
المؤرخون، فهو ينتقد المعلومة والمؤرخين قبله على عدم دقتهم واصفاً إياهم بأنهم:
(تاهوا في بيداء
الوهم والغلط ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر, إذا عرضت في
الحكايات إذ هي مظنة الكذب ومطية الهذر ولا بد من ردها إلى الأصول وعرضها على
القواعد. وهذا كما نقل المسعودي وكثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل بأن موسى
عليه السلام أحصاهم في التيه بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح خاصة من ابن عشرين
فما فوقها فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون, ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشام
واتساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش)... (ولقد كان ملك الفرس ودولتهم أعظم من ملك
بني إسرائيل بكثير يشهد لذلك ما كان من غلب بختنصر لهم والتهامه بلادهم واستيلائه
على أمرهم وتخريب بيت المقدس قاعدة ملتهم وسلطانهم) [المجلد 1 - ص 10].
وعلى الرغم مما قاله فهو نقد لأمور جزئية كما هو الحال عند غيره,
ولن نفاجأ بقبوله للخرافات والأساطير والإسرائيليات بدءاً بالسلالات الخرافية
والتي تتناقض مع ما يدعيه من تحفظ تجاهها أو رفض, وانتهاء بكل ما اعتمده على
الرواة كالطبري وغيره...
خرافة السلالات البشرية:
يتحدث عن أولاد حام, ومنهم كنعان رأس الشعب
الكنعاني:
(وأما حام فمن ولده: السودان والهند والسند والقبط وكنعان
باتفاق. وفي آخرين خلاف نذكره، وكان له على ما وقع في التوراة أربعة من الولد وهم:
مصر ويقول بعضهم مصرايم، وكنعان وكوش وقوط. فمن وُلد مصر عند الإسرائيليين فتروسيم
وكسلوحيم. ووقع في التوراة فلشنين منهما معاً. ولم يتعيَّن من أحدهما، وبنو فلشنين
الذين كان منهم جالوت. ومن ولد مصر عندهم كفتورع، ويقولون هم أهل دمياط. ووقع الأنقلوس
ابن أخت قيطش الذي خرب القدس في الجلوة الكبرى على اليهود...
وأما كنعان بن حام فذكر من ولده في التوراة أحد عشر منهم صيدون، ولهم
ناحية صيدا، وإيموري وكرساش، وكانوا بالشام، وانتقلوا عندما غلبهم عليه يوشع إلى أفريقية
فأقاموا بها. ومن كنعان أيضاً يبوسا وكانوا ببيت المقدس وهربوا أمام داود عليه السلام
حين غلبهم عليه إلى أفريقية والمغرب، وأقاموا بها. والظاهر أنّ البربر من هؤلاء المنتقلين
أوّلاً وآخراً. إلا أنّ المحققين من نسابتهم على أنهم من ولد مازيغ بن كنعان، فلعل
مازيغ ينتسب إلى هؤلاء. ومن كنعان أيضاً حيث الذين كان ملكهم عوج بن عناق. ومنهم عرفان
وأروادي وخوي، ولهم نابلس وسبا، ولهم طرابلس وضمارى، ولهم حمص وحما، ولهم أنْطاكِية.
وكانت تسمى حما باسمهم) [المجلد 2 - ص 12].
إن ابن خلدون هنا يكرر الطبري وغيره, ولم يخرج من دائرة
الخرافة.
ثم يتحدث عن لاوذ ابن سام, ومن سلالته كنعان جاعلاً
كغيره كنعان من سلالتين؛ الأولى تعود لتلتقي السلالة التوراتية المعتمدة وهي من
حام, والثانية التي لم يعول عليها وهي من سلالة سام:
(ولم يذكر في التوراة وُلد لاوذ. وقال ابن إسحق: وكان
للاوذ أربعة من الولد: وهم طسم وعمليق وجرجان وفارس. قال: ومن العماليق أُمَّة
جاسِم. فمنهم بنو لَفَّ، وبنو هَزَّان، وبنو مَطَر وبنو الأزْرَق. ومنهم بُدَيْل
وراحِلِ وظَفَّار. ومنهم الكنعانُّيون وبرابَرةُ الشام، وفراعِنَة مِصْرَ) [المجلد
2 - ص 9].
وليست القضية أن يرفض رواية لصالح أخرى فكلتا الروايتين
خرافيتان، والقضية هي قبوله بمبدأ الخرافات كغيره!
ومع أن له لفتة جيدة حين يرفض أن يكون اللون الأسود
عقوبة نتيجة دعاء نوح على حام، إلا أنه قبل بما طرحته التوراة فقط كأنما هي الحكم
في الأمر متجاهلاً عقوبة العبودية الأبدية:
(وقد توهم بعض النسابين ممن لا علم لديه
بطبائع الكائنات أن السودان هم ولد حام بن نوح اختصوا بلون السواد, لدعوة كانت
عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه وفيما جعل الله من الرق في عقبه؛ وينقلون في ذلك حكاية
من خرافات القصاص. ودعاء نوح على ابنه حام قد وقع في التوراة وليس فيه ذكر السواد وإنما
دعا عليه بأن يكون ولده عبيداً
لولد إخوته لا غير. وفي القول بنسبة السواد إلى حام غفلة من طبيعة الحر
والبرد وأثرهما في الهواء
وفيما يتكون فيه من الحيوانات) [المجلد 1 - ص 105].
والغريب ألا يسأل ابن خلدون نفسه: ما تلك الجريمة التي
لا تغتفر والتي عقوبتها أبدية؟ وممن؟ من أب على ابن له! ولم يسأل نفسه ما ذنب
كنعان إن ارتكب الأب تلك الجريمة التي لا تغتفر!؟ أهو المعادل الموضوعي لإبليس
اللعين الذي تحدى الرب؟!
ولنتابع مع ابن خلدون فهو يتحدث عن العماليق ناقلاً عن
الطبري:
(عمليق أبو العمالقة كلهم أمم تفرَّقت
في البلاد، فكان أهل المشرق وأهل عمان والبحرين وأهل الحجاز منهم، وكانت الفراعنة بمصر
منهم، وكانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم الكنعانيون منهم) ثم يسرد عن ابن سعيد:
(وقال ابن سعيد فيما نقله عن كتب
التواريخ التي اطلع عليها في خزانة الكتب، بدار الخلافة من بغداد,
قال: كانت مواطن العمالقة تهامة من أرض الحجاز فنزلوها أيام خروجهم من
العراق أمام النماردة من بني حام، ولم يزالوا كذلك إلى أنّ جاء إسماعيل صلوات الله
عليه، وآمن به من آمن منهم. وتَطَرَّد لهم المُلك إلى أنّ كان منهم السميدع بن لاوذ
بن عمليق، وفي أيامه خرجت العمالقة من الحرم، أخرجتهم جرهم من قبائل قحطان، فتفرقوا
ونزل بمكان المدينة منهم بنو عبيل بن مهلايل بن عوص بن عمليق فعرفت به، ونزل أرض أيلة
ابن هومر بن عمليق، واتصل ملكها في ولده. وكان السميد سمةً لمن ملك منهم إلى أنّ كان
آخرهم السميدع بن هومر، الذي قتله يوشع لما زحف بنو إسرائيل إلى الشام بعد موسى صلوات
الله عليه، فكان معظم حروبهم مع هؤلاء العمالقة هنالك، فغلبه يوشع وأسره وملك أريحا
قاعدة الشام، وهي قرب بيت المقدس، ومكانها معروف لهذا العهد. ثم بعث من بني إسرائيل
بعثاً إلى الحجاز
فملكوه وانتزعوه من أيدي العمالقة ملوكه ونزعوا يثرب وبلادها وخيبر. ومن بقاياهم يهود
قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع وسائر يهود الحجاز على ما نذكره) [المجلد 2 - ص 20].
ويتابع غارقاً في الأساطير حول كنعان إذ
جعله الملك الأول في تاريخ البشرية وباني بابل وناشر الوثنية:
(وفي كتاب البدء ونقله ابن سعيد:
أنّ أول من ملك الأرض من ولد نوح,
كنعان بن كوش بن حام، فسار من أرض كنعان بالشام إلى أرض بابل، فبنى مدينة
بابل اثني عشر فرسخاً
في مثلها، وورث ملكه ابنه النمرود بن كنعان، وعظم سلطانه في الأرض، وطال
عمره وغلب على أكثر المعمور، وأخذ بدين الصابئة وخالفه الكلدانيون منهم في التوحيد
وأسمائه، ومال معهم بنو سام.
وكان سام قد نزل بشرقي الدجلة، وكان وصيُّ أبيه في الدين والتوحيد، وورث
ذلك ابنه أرفخشذ، ومعنى أرفخشذ مصباح مضيء، فاشتغل بالعبادة ودعاه الكلدانيون إلى القيام
بالتوحيد) [المجلد 2 - ص
27].
وعلى الرغم من تعارض الأنساب ومن بينها نسب النمرود الذي
في عهد إبراهيم واختلاف نسبته إلى حام أو سام, هناك خلاف حول اسم النمرود نفسه؛
أهو اسم علم أو صفة:
(ويظهر من كلام هؤلاء أنّ اسم النمروذ
سمة من ملك بابل، لوقوعه في أهل أنساب مختلفة، مرة إلى سام ومرة إلى حام) [المجلد 2 - ص 81].
وبكلامه اللا علمي ذاك عن السلالات وأحداث
الماضي السحيق يضع نفسه ضمن بوتقة المؤرخين التقليديين المتأثرين بالتوراة
والإسرائيليات, ولا ميزة له عنهم فهو لم ينتبه إلى مغزاها عند عزرا؛ وهو إعادة
صياغة الوجود البشري وفق الرؤية العنصرية اليهودية!
وما يدعيه ابن خلدون نظرياً كفيلسوف في أصول
التأريخ من التدقيق والدراسة والتحقق والتفكير, ينساه كمؤرخ!
ولذلك سنتابع معه ونحن متيقنون بأن ما كتبه
عن التاريخ القديم هو نسخة كربونية لا يغير من جوهرها شيء من الإضافات.
هجرة إبراهيم وعصر الآباء:
يتحدث ابن خلدون عن هجرة إبراهيم إلى فلسطين
كما تتحدث التوراة:
(ثم أمر بالخروج إلى أرض الكنعانيين
ووعده الله بأن تكون أثراً
لبنيه، وأنهم يكثرون مثل حصى الأرض. فنزل بمكان بيت المقدس وهو ابن خمس وسبعين سنة، ثم أصاب بلد الكنعانيين
مجاعة، فخرج إبراهيم في أهل بيته وقدم مصر)...
كما ينقل أفكار عزرا التي أسقطها على الله
كوعد منه لإبراهيم, فبعد عودة إبراهيم من مقاتلة الملوك عقب اعتدائهم على لوط
وسلبه ممتلكاته بحسب النص التوراتي:
(أوحى الله إلى إبراهيم أنّ هذه
الأرض: أرض الكنعانيين التي أنت بها، ملكتها لك ولذريتك وأكثرهم مثل حصى الأرض, وأن ذريتك يسكنون
في أرض ليست لهم أربعمائة سنة، ويرجع الحقب الرابع إلى هنا) [المجلد 2 - ص 40]!
ويذكر طلب إبراهيم من ابنه إسحق ألا يتزوج من
الكنعانيات:
(وكان إبراهيم عليه السلام قد عهد لابنه
إسحق أن لا يتزوّج في الكنعانيين، وأكد العهد والوصية بذلك لمولاه القائم على أموره،
ثم بعثه إلى حران مهاجرهم الأول), ولكنه
في الصفحة نفسها يذكر أن إبراهيم تزوج من كنعانية وثنية ولم ينتبه إلى ذاك التناقض
ولم يقف عنده:
(وتزوج إبراهيم من بعدها قطورا
بنت يقطان من الكنعانيين) [المجلد 2 – ص 43].
وعندما يتناول مجيء إسحق من مضارب خيام خاله في حران إلى
فلسطين يؤكد قضية منح الأرض الفلسطينية لبني إسرائيل:
(وقد كملت له بحرَّان عشرون سنة، ثم أمر
بالرحيل إلى أرض كنعان التي وعدوا بملكها, فارتحل) [المجلد 2 - ص 44].
كما يذكر أنه لما مات يعقوب في مصر حمله ابنه يوسف, وذهب
به إلى فلسطين ليدفنه هناك بناء على وصيته, فاعترضه كنعانيون فقضى عليهم:
(وحمله يوسف صلوات الله عليه إلى أرض
فلسطين، وخرج معه أكابر مصر وشيوخها بإذن من فرعون. واعترضهم بعض الكنعانّيين في طريقهم
فأوقعوا بهم، وانتهوا إلى مدفن إبراهيم وإسحق عليهما السلام، فدفنوه في المغارة عندهما،
وانتقلوا إلى مصر) [المجلد 2 - ص 46].
كما أن يوسف يوصي أهله بعد أن يموت:
(أنّ يحملوا شِلْوه معهم إذا خرجوا إلى
أرض الميعاد وهي الأرض المقدّسة) [المجلد 2 - ص 92].
والملفت للنظر معزوفة أرض الميعاد المكررة بين آونة
وأخرى, وهي المعزوفة الرئيسة في التوراة!
زمن موسى ويوشع:
عندما يتحدث عن موسى وهرون يربط بين الخروج من مصر
والذهاب إلى الأرض المقدسة/ فلسطين:
(فأوحى الله إليهما بأن يأتيا فرعون ليبعث
معهما بني إسرائيل، فيستنقذانهم من مملكة القبط وجور الفراعنة. ويخرجون إلى
الأرض المقدّسة التي وعدهم الله بملكها على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب) [المجلد 2 - ص 93].
ويؤكد منحهم أرض فلسطين، بعد الخروج:
(ولما نجا بنو إسرائيل ودخلوا
البرية عند سينا أول المصيف لثلاثة أشهر من خروجهم من مصر، وواجهوا جبال الشام وبلاد
بيت المقدس التي وعدوا بها أنّ تكون مُلْكا لهم على لسان إبراهيم وإسحق ويعقوب صلوات
الله عليهم بمسيرهم إليها) [المجلد 2 - ص 97].
ويتحدث عن التيه ومكانه فيجعله ممتداً من غرب الجزيرة
"السراة" وفاران "مكة" إلى برية سيناء شمالاً وباتجاه الأردن:
(فأقاموا كذلك أربعين سنة في برية سينا
وفاران، يتردّدون حوالي جبال السراة، وأرض ساعير، وأرض بلاد الكرك والشوبك)!
فكيف يكون تيهاً وله ذاك الامتداد,
والروايات حصرته في مساحة ضيقة يروحون فيها ويجيئون ضائعين!
وينتقل للحديث عن حروب موسى:
(ثم زحف بنو إسرائيل إلى بعض ملوك كنعان
فهزموهم وقتلوهم وغنموا ما أصابوا معهم، وبعثوا إلى سيحون ملك العموريين من كنعان في
الجواز في أرضه إلى الأرض المقدسة,
فمنعهم وجمع قومه وغزا بني إسرائيل في البرية، فحاربوه وهزموه وملكوا
بلاده إلى حد بني عمّون، ونزلوا مدينته وكانت لبني مؤاب. وتغلب عليها سيحون. ثم قاتلوا
عوجاً وقومه من كنعان،
وهو المشهور بعوج بن عوق، وكان شديد البأس فهزموه وقاتلوه وبنيه وأثخنوا في أرضه. وورثوا
أرضهم إلى الأردن بناحية أريحا وخشي ملك بني مؤاب من بني إسرائيل، واستجاش بمن يجاوره
من بني مدين، وجمعهم ثم أرسل إلى بلعام بن باعورا، وكان ينزل في التخم بين بلاد بني
عمون وبني مؤاب. وكان مجاب الدعوة معبراً للأحلام. واستدعاه ليستعين بدعائه.. ) [المجلد 2 - ص 98].
ويذكر موضع استقرار بني إسرائيل حتى وفاة موسى:
(ثم ارتحل بنو إسرائيل ونزلوا
شاطئ الأردن. وقال
الله قد ملكتكم ما بين الأردن والفرات كما وعدت آباءكم).
ومن بعد موسى يتابع يوشع:
(ثم
سار يوشع من بعد موسى إلى أريحا فهزم الجبارين ودخلها عليهم) [المجلد 2 - ص 99].
ولا ينسى بالطبع خرافة
سقوط الأسوار بنفخ الأبواق:
(ثم
نازل أريحا ستة أشهر وفي السابع نفخوا في القرون، وضج الشعب ضجة واحدة، فسقط سور المدينة
فاستباحوها وأحرقوها، وكمل الفتح واقتسموا بلاد الكنعانيين كما أمرهم الله) [المجلد 2 - ص 100].
وهو يعد سكان فلسطين
عدة شعوب جذرها ينتمي إلى سلالة حام:
(ثم بنو فلسطين من بني حام. ويسمى
ملكهم جالوت وهو من الكنعانيين منهم,
ثم بنو مدين، ثم العمالقة. ولم يؤذن لبني إسرائيل في غير بلاد الكنعانيين،
فهي التي اقتسموها وملكوها وصارت لهم تراثاً. وأما غيرهم فلم يكن لهم فيها إلا الطاعة والمغارم الشرعية من صدقة وغيرها) [المجلد 2 - ص 100].
وهو يرى أن الشام تتألف من عدة أمم أكثرهم كنعان: (الأمم الذين كانوا بالشام لذلك العهد
فأكثرهم لبني كنعان), وبناء على رأيه تكون بلاد كنعان الممنوحة لبني إسرائيل تعني معظم بلاد الشام!
ويتحدث عن أمجاد يوشع الزائفة والمختلقة, فيذكر
انتصاراته والاستيلاء على أورشليم:
(وتتبع سائر الملوك بالشام، فاستباح
منهم واحداً وثلاثين ملكاً، وملك قيسارية، وقسم الأرض التي ملكها
بين بني إسرائيل. وأعطى جبل المقدس لكالب بن يوفنا فسكن مدينة أورشليم وأقام مع بني
يهودا, ووضع القبة
التي فيها تابوت العهد والمذبح والمائدة والمنارة على الصخرة التي في بيت المقدس) [المجلد 2 - ص 102].
ولكنه ينسى ما قاله عن كالب بأنه سكن أورشليم بعد اقتسام
الأرض التي ملكها الإسرائيليون عقب قهر الكنعانيين, فيذكر في الصفحة السابقة نفسها
أن أتباع يوشع فتحوا أورشليم:
(ثم بعد يوشع اجتمع بنو يهودا وبنو شمعون
لحرب الكنعانيين فغلبوهم وقتلوهم، وفتحوا أورشليم وقتلوا ملكها، ثم فتحوا غزة وعسقلان،
وملكوا الجبل كله)..
وكذلك يذكر الكنعانيين فيما بعد وتداولهم
الغلبة مع الأسباط. وهو يستخدم كلمة بني فلسطين في قتالهم المتداول مع بني
إسرائيل, ويقصد الفلسطينيين!!
مملكة داود المزعومة:
يذكر ابن خلدون أمجاد داود التوراتية
وانتصاره على جالوت بالحجارة وانهزام الفلسطينيين، ثم امتداد ملكه..
ثم ينتقل للحديث عن قتال داود لكنعان
والفلسطينيين.. وبنائه لمدينة صهيون:
(واستبد داود بملك بني إسرائيل
لثلاثين سنة من عمره,
وقاتل بني كنعان فغلبهم ثم طالت حروبه مع بني فلسطين واستولى على كثير
من بلادهم، ورتب عليهم الخراج. ثم
حارب أهل مؤاب وعمون، وأهل أدوم وظفر بهم، وضرب عليهم الجزية. ثم خرب بلادهم بعد ذلك. وضرب الجزية
على الأرمن بدمشق وحلب، وبعث العمال لقبضها. وصانعه ملك أنْطاكِية بالهدايا والتحف. واختط مدينة
صهيون وسكنها..)
[المجلد 2 - ص 111].
ويحدثنا أن سليمان ورث أباه داود, وقد:
(استفحل ملكه، وغالب الأمم وضرب الجزية
على جميع ملوك الشام. مثل فلسطين وعمون وكنعان ومؤاب وأدوم والأرمن.. ) [المجلد 2 - ص 112].
ويتابع ابن خلدون مجريات الأحداث المستمدة من التوراة,
فيتحدث عن مُلك الإسرائيليين المزعوم:
(فأقام بنو داود في سلطانهم على بني يهوذا
وبنيامين ببيت المقدس وعسقلان وغزة ودمشق وحلب وحمص وحماة وما إلى ذلك من أرض الحجاز. وملك الأسباط
العشرة بنواحي نابلس وفلسطين. ثم نزلوا مدينة شومرون وهي شمرة وسامرة في الناحية الشرقية
الشمالية من الشام مما يلي الفرات والجزيرة، واتخذوها كرسياً لملكهم ذلك.
وأقاموا على هذا الافتراق إلى حين انقراض أمرهم، ووقعوا في الجلاء الذي كتب الله عليهم) [المجلد 2 - ص 116].
***
ويتابع ابن خلدون تاريخ فلسطين المغيب لصالح الرواية
التوراتية فيتحدث بلسان الأسفار عن السبي ثم عن المجيء إلى فلسطين. وقد ذكر أن
دانيال في عهد كيرش (كورش, قورش) وبأنه ولاه أحكام دولته, وسمح له بتعمير القدس:
(وولى دانيال أحكام دولته. وجعل إليه أمره، وأذن له أنّ يخرج ما
في الخزائن من السبي والذخائر والآنية ويرده إلى مكانه، ويقوم في بناء القدس، فعمره) [المجلد 2 – ص 126].
ويذكر بأنه اطلع على كتاب يوسف بن كريون (6) في مصر
وتابع منه تاريخ اليهود حتى زمن الرومان:
(ووقع بيدي وأنا بمصر تأليف لبعض علماء
بني إسرائيل من أهل ذلك العصر، في أخبار البيت والدولتين اللتين كانتا بها ما بين خراب
بختنصر الأول وخراب طيطس الثاني الذي كانت عنده الجلوة الكبرى، استوفى فيه أخبار تلك
المدة بزعمه. ومؤلف الكتاب يسمى يوسف بن كريون...
وأما الكتاب فاستوعب فيه أخبار البيت واليهود بتلك المدة، وأخبار الدولتين
اللتين كانتا بها لبني حشمناي وبني هيردوس من اليهود، وما حدث في ذلك من الأحداث، فلخصتها
هنا كما وجدتها فيه لأني لم أقف على شيء فيها لسواه. والقوم أعلم بأخبارهم إذا لم يعارضها
ما يقدم عليها) [المجلد
2 - ص 124].
وهو يروي عنه تدمير معبد اليهود وخراب القدس
وتشتت اليهود على يد طيطس/ تيتوس القائد الروماني, وينهي اختصاره لكلام يوسف,
بانقراض دولة اليهود:
(وانقرضت دولة اليهود أجمع) [المجلد 2 - ص 164]!!
والملاحظ تحول ابن خلدون من ذكر بني إسرائيل
إلى استخدام كلمة اليهود مانحاً بذلك أولئك صفة الوراثة الجنسية/ العرق. وبالتالي
صار تاريخ فلسطين وبلاد الشام القديم عند ابن خلدون وغيره هو تاريخ اليهود بل
تاريخ دولة اليهود كما يذكر، وصراعات شعب فلسطين والشام ضد الغزاة اليونانيين
والروم هو صراع اليهود ضد أولئك!!
إذاً لا فرق بين ابن خلدون وغيره عندما يتحدث
عن تاريخ فلسطين القديم وشعبها، ففلسطين مكاناً وزماناً مصادرة لصالح بني إسرائيل
في تلك العصور السحيقة؟!
*
* *
النويري شهاب أحمد بن عبد الوهاب "توفي 733 هـ"
"نهاية
الأرب في فنون الأدب"
موسوعة النويري
تشمل الأدب والعلوم والتاريخ, ولكن ما يميز تاريخه هو خياله الأدبي ولا سيما في
القص, حيث يعيد صياغة بعض الروايات وفق مزاجه الأدبي!
يعد النويري
مؤرخاً وأديباً, فقسمه التاريخي في موسوعته هو القسم الأكبر. والمؤرخون جميعاً
كانوا علماء دين وفقه وتفسير وأدب ونحو وبلاغة وعروض.. فعصورهم عصور الموسوعات!
يبدأ النويري
تاريخه منذ التكوين وحتى عصره, معتمداً على كعب الأحبار ووهب بن منبه وأبو إسحق
الثعلبي والكسائي.. وهو لا يتورع عن ذكر الخرافات والأساطير دون أي تحفظ!
خرافة السلالات
البشرية:
النويري كأديب
مرهف المشاعر, لم يعجبه أن تنجب امرأة نوح المؤمنة كنعانَ الكافر إلى جانب سام
وحام ويافث المؤمنين, لذلك أقصى كنعان عن أمه المؤمنة, وجعله من امرأة أخرى آمنت
بنوح وخلفت كنعان ثم ارتدت وعادت إلى الوثنية:
(ثم آمنت به
امرأة أخرى من قومه يقال لها: والعة فتزوجها فأولدها كنعان؛ ثم نافقت وعادت إلى
دينها) [الصفحة 7058] (7)!!
وكنعان الكافر
ذاك غرق في الطوفان, حيث رفض أن يركب مع أبيه نوح في السفينة:
(كان ابنه هذا
كنعان) [الصفحة 7065].
ولا ينسى قضية
حام والعورة واللعنة الأبدية، فيرويها بتكوين جديد:
(ولما استقر
الأمر قال نوح لبنيه: إني أحب أن أنام، فإنني لم أتهنأ بالنوم منذ ركبت الفلك.
فوضع رأسه في حجر ابنه حام، فهبت الريح فكشفت عن سوءته فضحك حام، وغطاه سام.
فانتبه فقال: ما هذا الضحك؟ فأخبره سام، فغضب وقال لحام: أتضحك من سوءة أبيك؟ غير
الله خلقتك، وسود وجهك. فاسود وجهه لوقته. وقال لسام: سترت عورة أبيك، ستر الله
عليك في هذه الدنيا، وغفر لك في الآخرة. وجعل من نسلك الأنبياء والأشراف، وجعل من
نسل حام الإماء والعبيد، وجعل من نسل يافث الجبابرة والأكاسرة والملوك العاتية)
[الصفحة 7068 – 7069].
وهو يحط من
مكانة نمرود بجعله ابن زنى؛ فأبوه كنعان بن كوش الملك, يقتل زوجَ امرأة جميلة
أعجبته, ثم يغتصبها فتحمل منه نمرود:
(ثم أقبل زوجها
فقتله كنعان وأخذ المرأة ووطئها، فحملت بنمروذ، ونقلها كنعان إلى قصره، فكانت من
أحظى نسائه، ثم قتل أخاه بعد ذلك، واستقل بالملك) [الصفحة 7166].
فكنعان الأول
ابن المرتدة مات غرقاً في الطوفان, وكنعان الثاني المستنسخ ملك مجرم وقاتل وزانٍ..
ولن نتابع معه أسطورة نشأة نمرود المخيفة والشنيعة ثم قتله لأبيه كنعان واستلام
السلطة, فصاحبنا قد تجاوز فيها حدود الخرافات!
هجرة إبراهيم وعصر الآباء:
يتحدث النويري
عن خروج إبراهيم من العراق وما جرى معه في فلسطين, محوراً الحكاية التقليدية التي
جرت بين سارة وفرعون مصر كما تقول التوراة, ليجعلها مع صادوق ملك الأردن بناء على
إحدى الروايات:
(وجمع إبراهيم
أصحابه الذين آمنوا به، وسار يريد الشام، فجاء إلى حران فأقام بها مدة من عمره،
وترك بها طائفة من المؤمنين، وسار حتى أتى الأردن وكان اسم ملكها صادوق، فمر به
وهو في منظرة له. فنظر إلى سارة مع إبراهيم فأحضرهما، وقال لإبراهيم: من أنت؟ قال:
أنا خليل الله إبراهيم, وذكر له ما كان من أمر نمروذ. فقال له: من هذه؟ قال: هي
أختي. فقال: زوجنيها. قال: هي أعلم بنفسها مني، وإنها لا تحل لك. فاغتصبها منه،
وقام إلى مجلس آخر وأمر بحملها إليه. فدعا إبراهيم الله تعالى، فارتج المجلس
بالملك، ويبست يده فقال لسارة: ألا ترين ما أنا فيه؟ قالت: لأنك أغضبت خليل الله.
قال: فتضرع إلى إبراهيم؛ فسأل الله في رد يده عليه؛ فأوحى الله إليه: لا أطلقه دون
أن أخرجه من ملكه ويسلم؛ فأسلم وخرج عن الملك، ووهب سارة هاجر، وهي أم إسماعيل.
قال وارتحل إبراهيم حتى أتى الأرض المقدسة فنزلها) [الصفحة 7203 – 7204].
إن التوراة تروي
حكايتين جرت مع سارة إعجاباً بها؛ واحدة في مصر مع فرعونها, والأخرى مع أبيمالك
ملك جرار في فلسطين. والنويري هنا في حكايته المغايرة يجعل نهايتها أكثر إرضاء
لفضول المستمع أو القارئ؛ فالملك يسلم ويمنح سارة جارية هي هاجر!
ويتابع النويري
يعقوبَ في حران, وبأنه قد استأذن خاله ليذهب إلى كنعان "فلسطين" لأن
الله أوحى له ليهدي شعبها إلى الإيمان!
وجاء إلى فلسطين
وكان هناك ملك كنعاني اسمه سحيم فدعاه للإيمان فأبى, وجرت معركة تمكن خلالها ابن
يعقوب واسمه شمعون من تحطيم حصن سحيم وذلك عندما ضرب جدار الحصن بقدمه فانهار
وسقط, ودخل الرعب قلوب كنعان فآمنوا كلهم:
(وأقبل يعقوب
بأولاده والملك في حصنه، فقال: يا بني، جاهدوا في الله حق جهاده. فقال ابنه شمعون:
أنا أكفيك هذا الحصن. وأقبل وضرب باب الحصن برجله فتساقطت حيطانه، وصاح صيحة عظيمة
فمات الملك وأكثر من بالحصن، ودخل يعقوب الحصن، وغنم ما كان فيه؛ فكانت هذه معجزة
ليعقوب، وبلغ ذلك أهل كنعان، فوقع الرعب في قلوبهم، فآمنوا بيعقوب) [الصفحة 7233 –
7234].
والحكاية هنا
مقتبسة من حكاية شكيم بن حمور مع دينة ابنة يعقوب, ولكنها لا تمت للأصل بصلة (8).
ولنقف عند قوله
إن أهل كنعان آمنوا بيعقوب, ولا قيمة للخوف إذا كان هو السبب, فالمهم أنهم آمنوا,
ومن المفترض من الناحية النظرية أن يُسقط الإيمانُ الوعدَ, من منطلق أن الوعد كما يعلل
بعضهم نتيجة وثنية كنعان!
ويتحدث عن جلب
موسى لجثة يوسف كما رواها الآخرون:
(ولم يزل في نهر
النيل حتى بعث الله موسى عليه السلام, فأمره الله أن يحمل تابوت يوسف؛ فأخرجه
ونقله إلى بيت المقدس، فدفنه هناك، وموضع قبره معروف) [الصفحة 7288].
زمن موسى:
يعلل عودة موسى
إلى مصر من مدين لأنه اشتاق لأهله؛ أمه وأخيه وأخته.. ولكنه بعد مروره بوادي طوى
حمل رسالة دعوة فرعون للإيمان وإخراج الإسرائيليين من مصر:
(.. وقد طالت
غيبتي عن أمي وخالتي وهارون أخي وأختي. فقال شعيب: إني أكره أن أمنعك. وأوصاه
بابنته وأوصاها ألا تخالفه؛ وسار موسى
عليه السلام بأهله يريد أرض مصر حتى بلغ جانب وادي طوى..).
ثم يتحدث عن
الذهاب إلى الأرض المقدسة:
(ثم أوحى الله
تعالى أن يسير ببني إسرائيل إلى الأرض المقدسة ويجاهد الجبارين) [الصفحة 7490 -
7491].
ويفهم من كلامه
أن بني إسرائيل خرجوا من مصر, ولم يكونوا يعلمون أنهم ذاهبون إلى فلسطين:
(قال الكسائي:
فلما أخبرهم موسى بذلك قالوا: يا موسى إنك قلت لنا حين أخرجتنا من مصر: إن الله
تعالى بعثك لتنقذنا من عذاب فرعون، والآن فإنك تحملنا على ما هو أشق منه، وبيننا
وبين الأرض المقدسة المفاوز والقفار، وكيف ندخلها ولا زاد معنا ولا ماء؟
فأوحى الله
تعالى إليه: يا موسى، قل لهم: إني منزل عليهم المن والسلوى، وقد أمرت الحجر أن
يتفجر لهم بالماء العذب، وأمرت الغمام أن يظلهم ويسير معهم حيث ساروا, وألا تنقب
خفافهم ونعالهم, وأمرت ثيابهم أن يلبسها صغيرهم وكبيرهم.
فلما سمعوا ذلك
طابت نفوسهم، وساروا نحو الأرض المقدسة) [الصفحة 7492].
ويروي عن
الثعلبي أن الله أورث بني إسرائيل أرضَ كنعان:
(قال الثعلبي:
وذلك أن الله تعالى وعد موسى عليه السلام, أن يورثه وقومه الأرض المقدسة، وهي
الشام. وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون ووعدهم أن يهلكهم, ويجعل أرض الشام مسكن
بني إسرائيل. فلما استقرت ببني إسرائيل الدار بمصر أمرهم الله تعالى بالمسير إلى
أريحا. "هكذا قال الثعلبي: بمصر". واليهود تنكر ذلك، ويقولون: إن نص
التوراة عندهم أن الله تعالى لما أغرق فرعون وقومه ونجى موسى وبني إسرائيل، تنقلوا
من مكان إلى آخر. ويذكرون أسماء الأماكن بالعبرانية - وليست تعرف الآن - وكان في
خلال مسيرهم خبر التيه..) [الصفحة 7500 – 7501].
ولا يفوته ذكر
الأخبار المتضاربة والمتعلقة بدخول أريحا. كما يتحدث عن خرافة سقوط أسوار أريحا
بالصيحة زمن يوشع [الصفحة 7536].
***
ويتابع النويري
سرد التاريخ الديني راوياً ما هب ودب من الحكايات الشعبية والخرافات, ومن ضمنها
انتصار داود بحجارة المقلاع [الصفحة 7615]. وخبر بختنصر وقدومه بسبب قتل يحيى بن
زكريا [الصفحة 7819]...
تلك صورة عن
النويري فهو وإن أقحم مخيلته في بعض ما يرويه, لكنه في النهاية كغيره من المؤرخين
يدور في فلكهم ولم يخرج من دائرتهم.
***
ذاك التاريخ
الذي قدمه لنا المؤرخون القدماء هو الذي ساد, وتعلمته الأجيال تلو الأجيال, وهذا القلقشندي
يكتب موسوعته بهدف تثقيف من يريد أن يمتهن الكتابة في ديوان الإنشاء.
والمقتطفان التاليان يعطيان فكرة عما يريد أن يعلمه لمن
يريد أن يحظى بذاك المنصب الخطير!
الأول عن كنعان:
(وكان كنعان قد نزل الشام بجهة فلسطين
عند تبلبل الألسنة بعد الطوفان وتوراثها بنوه بعد ذلك. وكان كل من ملك منهم يلقب
بجالوت إلى أن انتهى الملك إلى رجل منهم اسمه كلياذ وهو جالوت الذي قتله داود عليه
السلام, وبقتله تفرق بنو كنعان وباد ملكهم وزال)
(9).
والثاني عن بني
إسرائيل:
(.. وملك بعده داود عليه السلام وكانت
دار ملكه بالقدس, وفتح فتوحات كثيرة من أرض فلسطين وعمان ومأرب وحلب ونصيبين وغير
ذلك.. ) (10).
***
لقد ضل مؤرخونا
القدماء عن الحقيقة في تأريخهم القديم؛ حيث غيبوا تاريخ العرب القديم وحضارتهم
التي أذهلت العالم بعد اكتشافها.
لقد كانوا
مدفوعين بمشاعر دينية وبعشق للقصص المثيرة, وما كتبوه لا يمت للتاريخ العلمي بأية
صلة؛ فالقصص شيء, والتاريخ العلمي شيء آخر!
والدارس المنصف عليه ألا يسقط العقلية المعاصرة
على نص كتبه مؤرخ في عصر له مقوماته الثقافية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية
والسياسية.. فالنص يدرس ضمن مقوماته وبيئته التاريخية والجغرافية والظروف المحيطة
بهما.
والنقد الموضوعي
موجه إلى اعتمادهم على منهج الجمع دون دراسة أو تمحيص, ولنقلهم التراث اليهودي إلى
التراث الإسلامي دون تحفظ, مع أنهم انتقدوا الأسفار والرواة الكاذبين وطعنوا
بالخرافات.. ولو كانوا جادين بنقدهم والتزموا به كمنهج, لما أساؤوا إلى تاريخنا
القديم وحضارتنا.
والكم المتراكم
الذي قدموه لنا سواء أكثرت مجلداته أم قلّت, إنما هو تكرار لما قاله فرسان الرواية
والقصص والأخبار.. يتداولونها من واحد إلى آخر.. وذاك الكم ليس أكثر من نسخ
كربونية، واحدة منها تغني عن البقية، ولا تغير الأمر زيادة عند أحدهم أو نقص عند
آخر.
* *
*
يتبع في الجزىء الثاني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق